تم توقيع اتفاقيات كامب ديفيد بين الكيان العبري ومصر في ظل رعاية ودعم الرئيس الأمريكي "جيمي كارتر" سنة 1979. وكارتر كما نعلم من الحزب الديمقراطي، وقد عُرف بلقب "عرّاب كامب ديفيد".
جاء ريغان وبعده بوش الأب من الحزب الجمهوري ولم توقّع اتفاقيات جديدة معلنة مع الكيان؛ ولكن في عهد "بيل كلينتون" الديمقراطي جرى توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين "م.ت.ف" ورابين (أوسلو) في حدائق الأبيض في خريف 1993، وبعد عام وقعت اتفاقيات وادي عربة بين الأردن والكيان أيضا في عهد كلينتون ورعايته وحضوره.
وشهدت تلك الفترة، أي النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، حركة انفتاح عربي مع "
إسرائيل"، مثل حضور مسؤولين عرب جنازة إسحاق رابين، وافتتاح مكاتب تمثيل تجاري وما شابه، وازدادت وتيرة النشاطات
التطبيعية من بعض القطاعات الزراعية أو الطبية أو الفنية، وكل هذا في عهد كلينتون الديمقراطي!
لم يعد خافيا على أحد أن ثمة علاقات سرّية ربطت الحركة الصهيونية حتى قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي، ومسؤولين من مستويات مختلفة من دول عربية مختلفة، ولكن حرص الطرفان على عدم إعلان تلك العلاقات، حتى لو كانت مجرد لقاء عابر، خاصة أن الخطاب الرسمي العربي ظل يظهر عداء وجفاء تجاه إسرائيل في خطابه المعلن، أو التمسك بعبارة "السلام العادل والشامل وفق مبدأ الأرض مقابل السلام على أساس قرارات الأمم المتحدة" و"دعم حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني".
ولم يجرؤ أي نظام عربي على الخروج عن نهج مقاطعة إسرائيل علنيا، حتى قام السادات بخرقه المعروف لهذا الثابت.
ومع أهمية دور مصر المركزي في الصراع وفق قاعدة "لا حرب دون مصر ولا سلام دون سوريا"، فقد قاطع العرب مصر، وتم نقل مقر الجامعة العربية إلى تونس كخطوة احتجاجية، واستمرت المقاطعة سنوات عدة، وقد حرص خليفة السادات على عدم زيارة إسرائيل نهائيا طيلة فترة حكمه، إلا لحضور تشييع إسحاق رابين.
ولكن ملك المغرب الراحل "الحسن الثاني" استقبل في مدينة إفران وزير خارجية إسرائيل شمعون بيريز صيف 1986 علنا، ومع أن الملك حاول التخفيف من حدّة الغضب تجاه خطوته، وأنه فقط عرض على بيريز الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة مقابل السلام وفق ما جاء في مقررات قمة عربية سابقة، وحين لاحظ أن بيريز غير جاد سارع إلى إنهاء اللقاء، مع هذه المحاولة التي تنطوي على نوع من التماس العذر، إلا أن ردة الفعل العربية الرسمية عموما كانت إعلان رفض جذري لهذا اللقاء، خاصة من قبل معمر القذافي ومن قبل حافظ الأسد الذي قطع العلاقات مباشرة مع المغرب.
ومع أن المواطنين الفلسطينيين كانوا في أحاديثهم الخاصة يتحدثون عن علاقات ولقاءات بين مسؤولين عرب وصهاينة، وأن ما يظهر في الإعلام لا يعكس حقيقة العلاقات، مع وجود تسريبات محدودة عن مثل تلك اللقاءات أو العلاقات من وسائل إعلام غربية وعبرية، ولكن النظام العربي الرسمي بمجمله لم يتجاوز ما اعتبر خطا أحمرا في طبيعة التعاطي مع الكيان. فهو وإن أقام علاقات سرّية بعيدا عن الأعين، فإنه ظل يحافظ على خطاب نسقه العام رفض العلاقة، إلا وفق مبادئ وخطوط عريضة. وقد توّجت تلك المواقف بتبني قمة بيروت 2002 ما عرف بالمبادرة العربية للسلام، القائمة على تطبيع كامل العلاقات بين الدول العربية جميعا مع إسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي العربية المحتلة في حزيران/ يونيو 1967.
وقد مرت 16 سنة دخل فيها البيت الأبيض رئيسان، جمهوري وديمقراطي (بوش الابن وأوباما) وبقي الوضع على حاله، أي علاقات غير معلنة أو لقاءات عابرة بين مسؤولين صهاينة ومسؤولين عرب (مثل لقاء وزير خارجية الكيان سيلفان سالوم مع نظيره التونسي في عهد ابن علي في فترة بوش الابن)، بل حتى كان هناك نوع من الفتور والتراجع في بعض مستويات العلاقة مثل خطوة سحب السفيرين المصري والأردني لدى الكيان، وإغلاق مكتب التمثيل التجاري في قطر، بعيد انتفاضة الأقصى التي شهدت وقوع جرائم بشعة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي في الضفة وغزة.
التحوّل الملحوظ ظهر منذ وصول "دونالد
ترامب" مرشح الحزب الجمهوري إلى المكتب البيضاوي في 2016، حيث كثرت الأحاديث عن وجود لقاءات واتصالات على أعلى مستوى بين دول عربية وإسرائيل، ووجود تعاون أمني وثيق، ناهيك عن تبدّل وتغير الخطاب العربي الإعلامي والرسمي؛ وهو الذي كان الجمهور العربي يعيب عليه اكتفاءه بعبارات شجب واستنكار ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، وإذ به ينتقل إلى ما يشبه التماهي مع الاحتلال، وتحريض من قبل بعض المحسوبين على أنظمة عربية ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته.
وقد تم تتويج هذا التراجع العربي غير المسبوق بإعلان اتفاقيات تطبيع علنية بين الكيان وكل من البحرين والإمارات، واتفاق "تطبيع جوي" ولقاء بين مسؤولين عسكريين سودانيين وبنيامين نتنياهو.
وصار المسؤولون الإسرائيليون ووسائل الإعلام في الكيان في حالة تسابق وتفاخر للإعلان عن أي لقاء أو تواصل أو اتفاق علني أو سرّي مع أي دولة عربية؛ فإسرائيل في عهد ترامب لم تعد تريد العلاقات تحت الطاولة، بل دفعت العرب إلى مجاهرة بما كان يعدّ كافيا للنبذ والمقاطعة في زمن سابق.
كما أن اتفاقيات التطبيع الجديدة تختلف عن سابقاتها في جوانب عدّة؛ أبرزها أن الدول المنضمة إلى التطبيع مؤخرا صارت في حالة حلف مع إسرائيل، مع تفاخر بهذه العلاقة الشاذة، ودفع أوساط شعبية وإعلامية إلى الدفاع عنها، وضمن أدوات الدفاع توجيه السباب المقذع للشعب الفلسطيني، وتبني روايات تلمودية، ثمة حتى في إسرائيل من يرفضها.
ومؤخرا انضمت المملكة المغربية وهي دولة مهمة عربيا إلى مسار التطبيع العلني، ويقال إن الثمن هو اعتراف أمريكي بسيادتها على الصحراء الغربية.. وإجمالا، فإن كل اتفاقيات التطبيع مع الكيان تأخذ ثمنا سياسيا أو ماليا، لا يقارن بما تجنيه إسرائيل على الصُعد السياسية والأمنية والاقتصادية كافة.
وكما ظهر ويظهر وسيظهر في قادم الأيام، فإن الجديد فقط هو إعلان ما كان مخفيا و"رسملته". فكما قلنا؛ فإن العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل ليست جديدة، ولكنها كانت أشبه بالزواج السرّي!
ولكنْ، هناك سؤال ممزوج بدهشة واستغراب؛ مفاده أن ترامب سيغادر البيت الأبيض في غضون أسابيع قليلة، فلماذا تسارع أقطار عربية إلى تطبيع العلاقات مع الكيان إرضاء له واستجابة لضغوطه؟ وكأنهم بهذا يميلون إلى وجهة نظر يجري تسويقها، مفادها أن
بايدن وإن كان ملتزما بأمن إسرائيل وتفوقها، فإنه لن يمارس مثل ترامب ضغوطا على العرب كي يواصلوا التطبيع، بل إن مسار التطبيع - وفق هذا التفكير- في سباق محموم مع الزمن!
ولكن، هل يختلف الديمقراطيون عن الجمهوريين في مسألة جعل العلاقة بين إسرائيل والعرب طبيعية بل تحالفية أو حتى تبعية قائمة على هيمنة إسرائيل وتفوقها؟ قد يقال إن أمام بايدن ملفات أخرى أهم.. وقد قيل عن ترامب شيء كهذا، فكان أكثر رؤساء أمريكا تفرغا لدعم شوكة إسرائيل وتقويتها، وتاريخ بايدن مع إسرائيل واللوبي الصهيوني في أمريكا صار معلوما.
وبرأيي، فإن ثمة ملاحظات ونقاطا يجب أن نضعها في الاعتبار عند قراءة هرولة العرب نحو التطبيع، الذي جاء على هذه الهيئة الصادمة في زمن ترامب، بحيث لا نقصر الأمر على شخص ترامب وعلى الحزب الجمهوري (أوضحت أن أبرز الاتفاقيات كانت في عهد الديمقراطيين) وهي:
1- احتلال العراق، وقبله منذ 1991 تراجع دوره العسكري وثقله الاقتصادي والسياسي المؤثر شجع من كانوا يترددون.
2- الأزمة السورية ومخرجاتها؛ فالنظام السوري يحكم على الورق وتتقاسم البلاد دول عدة ومحاور مختلفة، مع التذكير بأن دعم قضية فلسطين يعود إلى عهد شكري القوّتلي وليس مرتبطا بالأسد الأب والابن كما يروّج المدافعون عنه، بل إن سياساته هي التي أخرجت سوريا من دورها المحوري في الصراع مع الكيان.
3- إضافة إلى خروج العراق وسوريا وقبلهما مصر من حلقة الصراع، جاءت الثورات المضادة وهي مدعومة ماليا وسياسيا وإعلاميا من دول التطبيع الحالي، مما جعل هذه الدول، كونها راعية لمسار الثورات المضادة، أن تمضي دون قلق نحو أحضان الكيان؛ فالثورات المضادة تحاصر وتهدد التجربة التونسية وتبتزها، واستقرّ لها في القاهرة نظام يبارك كل خطوة تطبيعية فورا، وجعلت ليبيا البلد الغني شاسع المساحة ساحة حرب بدعم علني لمليشيا حفتر؛ فخلا لها الجو بحيث لا تجد معارضة قوية لتوجهاتها.
4- الثورة على حكم البشير في السودان لم تأخذ في الحسبان تأثير قوى دعم الثورة المضادة والقوى الدولية، التي لن تسمح بوجود نظام في الخرطوم يعادي إسرائيل مرة أخرى، حتى لو أدى ذلك إلى حرب أهلية جديدة.
5- الوضع الفلسطيني الصعب الذي يعاني من انقسام وعدم توافق على برنامج سياسي مشترك يطبّق على الأرض، شجّع المطبعين وأثار فيهم الطمع بإنهاء القضية الفلسطينية، مع التأكيد الضروري أن العرب يتحملون قسطا كبيرا مما آلت إليه الحالة الفلسطينية، وعدم تعليق الانهيار العربي على المشجب الفلسطيني.
6- دعم إسرائيل وتقويتها سياسة أمريكية ثابتة، وصار من ضرورات هذا الدعم تطبيع دول عربية علاقاتها معها حدّ التحالف، ولا يوجد ضمان بل حتى تلميح من بايدن بأنه سينقلب على هذا المسار، أو حتى لا يشجعه؛ أما التساؤل عن استباق توليه مهام منصبه بتطبيع العلاقات، فلربما تكون هذه طريقة جديدة في تقديم أوراق اعتماد أو بوادر حسن نية. قد يتجاهل بايدن خطة ترامب، ولكنه لن يتردد في السعي إلى تطبيع العلاقات بين العرب والصهاينة.
أخيرا، لا بد من تكرار ما نقوله دوما: يجب أن تعتمد قوى الأمة الحيّة الرافضة للتطبيع ومخرجاته على الله أولا، ثم على زيادة أوراق قوتها، وتمتين وزيادة تحالفاتها وتأجيل النبش في ملفات خلافاتها، بدل المراهنة أو حتى الأمل بتغير في خيارات وسياسات الإدارة الأمريكية أو غيرها.