وأخيراً، أسدل الستار على الانتخابات الأمريكية، الأكثر إثارة وتشويقاً في تاريخ الانتخابات، وأعلن فوز "جون
بايدن" رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، ليكون الرئيس السادس والأربعين في تاريخها، منذ جورج واشنطن عام 1789، وذلك بعد سباق مثير، شهد أعلى نسبة مشاركة منذ أكثر من قرن، وهو ما يعني أن الأمريكيين أخذوها مسألة حياة أو موت، وأنها معركة وجود بالفعل، فإذا انتصر
ترامب فيها، سيحل بالكارثة عليهم وعلى العالم، فكان عليهم أن يتحدوا ليمنعوا هذه الكارثة قبل وقوعها. فمَن كان يصدق، أن شخصيات بارزة في حزبه الجمهوري، صوتت ضده، مثل جورج بوش الابن وجون بولتون وكولن باول والعديد من الجنرالات؟!..
منذ اليوم الأول في الانتخابات، أعلن الرئيس "دونالد ترامب" فوزه، واتهم سير العملية الانتخابية بالتزوير والغش، وهذه سابقة خطيرة في تاريخ الولايات المتحدة، لم يفعلها أي مرشح من قبل، فما بالكم برئيس الجمهورية!!..
واستمر "ترامب" في الهرتلة والتخبط وممارسة سلوكيات صبيانية مشينة، لا تليق برئيس أكبر دولة في العالم، يحط من قدر هذه الدولة القوية، إذ إنه بمجرد التشكيك في شفافية النظام الانتخابي الأمريكي، واتهامه بالتزوير والغش، فقد أدخل أمريكا العظمى في مصاف دول العالم الثالث.
فلأول مرة تدخل تلك المصطلحات في القاموس الأمريكي، ويبدو أن صداقته للحكام العرب قد أثرت عليه، وجعلته يستخدم مصطلحاتهم العقيمة! وحتى هذه اللحظة لا يريد أن يعترف بالهزيمة، بل استمر في غيّه وعناده، وآخر هرتلاته بعد إعلان النتيجة، أنه هو الفائز وبفارق كبير، وأن ملايين البطاقات أرسلت إلى أشخاص لم يطلبوها!!
* * *
لم تشهد الانتخابات الأمريكية شغفاً، لدى الوطن العربي كما شاهدته هذه الانتخابات الأخيرة، وكأنه أصبح ولاية من الولايات الأمريكية، ولها حق الانتخاب عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي. الطريف هنا أن المواطن العربي الذي يتابع الانتخابات الأمريكية عن كثب، لا يهتم إطلاقاً بأي انتخابات محلية تُجرى في بلده. ففي مصر مثلا تُجرى حالياً، بالتزامن مع الانتخابات الأمريكية، انتخابات البرلمان؛ والمواطن المصرى بعيد عنها تماماً ولا يعيرها أي إهتمام، بل إن كثيرا من المصريين لا تعرف أصلاً أن هناك انتخابات في بلدهم!!
وكما انقسم الأمريكيون ما بين ترامب وبايدن، انقسم العرب أيضا فيما بينهما، تبعاً لاتجهاتهم السياسية، فالموالون أو المؤيدون لأنظمتهم الديكتاتورية، كانوا يؤيدون ترامب الحامي لتلك الأنظمة، ويتمنون لو كانت لديهم بطاقة انتخابية ليصوتوا له، والآن يبكون على رحيله. وكذلك حكام العرب الصهاينة، كانوا يتمنون ويصلون من أجل فوز ترامب، وكم كانت صدمتهم كبيرة وحزنهم شديد لخسارته، وخروجه من البيت الأبيض مهزوماً مدحوراً، رغم كل ما قدموه له من دعم مادي ومعنوي، يكفي أنهم طبّعوا مع الكيان الصهيوني، من أجل إبقائه على كرسي الحكم، لكن الكرسي سقط، وسقطوا معه في بئر الخيانة، وطارت أموالهم أدراج الرياح مع طيره، وبقي لهم العار محفوظاً في التاريخ!
إن حالة الحزن والذعر والخوف من المستقبل لدى الحكام العرب، أكدت ما هو معلوم بالضرورة، ولكن بشكل فاضح، وهو أن نظم الحكم في منطقتنا العربية، ما هي إلا نظم تابعة للباب العالي في واشنطن، وأنها تأخذ شرعيتها منه، وليس من شعوبها..
أما المعارضون للأنظمة الحاكمة، فكانوا يؤيدون "بايدن"، ليس حباً لشخصه، ولكن كرهاً في "ترامب" الذي دعم تلك الأنطمة الاستبدادية، ولذلك عمت الفرحة في أوساطهم و"الشماتة" بسقوطه المدوى، وكأن إزاحة ترامب ستعقبها بالضرورة إزاحة حكامهم المستبدين، وأن فوز بايدن سوف يجلب لهم حياة ديمقراطية في بلدانهم، ونسوا أو تناسوا أو ربما لا يعلمون، أن أمريكا هي التي أتت بهؤلاء الحكام ونصّبتهم على سدة الحكم في بلدانهم، بل هي التي تجهض أي عملية ديمقراطية في المنطقة، بعكس ما تدّعي وتزعم.
فهي التي أدخلت الانقلابات العسكرية في الوطن العربي، منذ أن تزعمت العالم، بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، لتُحكم دوله بالفاشية العسكرية، ضمانا لمصالحها وحماية لأمن الكيان الصهيوني. فليس في صالحها أن تمتلك الشعوب العربية استقلالها، وتختار حكامها بإرادتها الحرة بعيداً عن عيونها. فوجود أى نظام ديمقراطي في المنطقة يُعد تهديداً وخطراً على الكيان الصهيوني، وكل مَن جلس في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، سواء كان من الحزب الجمهوري أو من الحزب الديمقراطي، يضع أمن الكيان الصهيوني نصب أعينه، ويعمل بتلك
السياسة للحفاظ على الوضع القائم، ولنا في انقلاب تموز/ يوليو 2013 خير مثال على ذلك. وبالمناسبة، لقد كان "بايدن" وقتها نائباً للرئيس "أوباما"، ومؤيداً للانقلاب.
وقد كان الإعلام الرسمي وغير الرسمي (شبكات التواصل الاجتماعي)، خير شاهد على ذلك الانقسام الحاد في الوطن العربي، لدرجة أن أستاذاً مصرياً في العلوم السياسية، يدعى "معتز عبد الفتاح"، يقدم برنامجاً على فضائية مصرية، قالها بكل فُجر وعلانية في برنامجه: "بايدن هيقرفنا ويسألنا عن السجون والأحزاب وقادة الرأي فين لأننا بناخد معونة؟ ولكن "ترامب" كان بيخلينا نعمل اللي احنا عايزينه"!!
ولم يقصر إعلام الإمارات والسعودية في دعمه اللامحدود لترامب، والحط من قدر "بايدن" والنيل منه..
لقد تغاضى المؤيدون والمعارضون، عن أن "ترامب" و "بايدن" وجهان لعملة واحدة، ويعملان لهدف واحد، وأن أيا منهما لا يستطيع أن يشذ عن أهداف واستراتيجيات الدولة الأمريكية العميقة الحاكمة، وإن كان "ترامب" أكثر سفوراً كاشفاً عن وجه أمريكا الإمبريالي، بينما "بايدن" أكثر نعومة ودبلوماسية وحنكة. فمثلا هو يدعم الكيان الصهيوني بشدة، ولكنه لم يبد تأييده لقرار ترامب بضم القدس الغربية إلى الشرقية، واعتبار القدس الموحدة عاصمة للكيان الصهيوني ونقل السفارة الأمريكية إليها، كما أنه لم يبد تأييده بضم الجولان لحدود الكيان، ولم يدل بأى تصريح عن صفقة القرن، وهو من أنصار حل الدولتين..
بايدن أيد غزو العراق عام 2002، إبان عهد جورج بوش الابن (الجمهوري)، بل وطالب بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم، تعتمد على مرجعية طائفية، كما أنه صوت لصالح غزو أفغانستان عام 2001.. كما أنه دعم فكرة إقامة جدار عازل بين أمريكا والمكسيك.
ولكن رغم ما قلناه آنفا عن أهداف الرجلين المشتركة، والتي هي ذاتها أهداف الدولة العميقة في أمريكا، وإن اختلف أسلوب كل منهما في التعامل معها، إلا أن أمريكا على مدار عمرها غير المديد لم تشهد رئيساً غريب الأطوار ومتقلب المزاج (أهوج، سوقي، بلطجي) مثل "ترامب"، يدير الأمور السياسية كـ"بزنس مان"، وليس كسياسي. وفي الحقيقة نحن نظلمه كثيراً، حينما نقارنه بالسياسيين، فهو لم يعمل في السياسة طوال حياته، ولم يعرف لغتها على الإطلاق، ولكنه يعرف لغة المال ويستطعم لذة الدولار. والرجل كان واضحاً منذ ترشحه عام 2016، مع ناخبيه ولم يخف ذلك، بل وصف السعودية بالبقرة الحلوب لبلاده، وقال: "حينما يجف ضرع هذه البقرة ولم يعد يعطي الدولارات والذهب، عند ذلك نأمر بذبحها"، مطالبا النظام السعودي بدفع ثلاثة أرباع ثروته كبديل عن الحماية التي تقدمها القوات الأمريكية لآل سعود داخلياً وخارجياً. وتعامل مع آل سعود طوال فترة رئاسته باحتقار وغطرسة وابتزاز وبلطجة، والغريب أنهم كانوا يتلذذون بهذا الحلب، ويستمتعون بإهاناته لهم، ويريدون له أن يستمر!!..
الرئيس ترامب الذي أقسم على احترام الدستور والحفاظ على أمن أمريكا واستقرارها، دمر النموذج الديمقراطي الأمريكي في أقل من أربع سنوات. فخلال فترة رئاسته، تعامل مع صلاحيته الدستورية من منطلق المصارع في حلبة مصارعة، ويريد أن يكسب بالضربة القاضية. فلقد استخدم صلاحياته بطريقة فيها تحد وعنف، وضرب المؤسسات في مقتل، وحوّل النظام الديمقراطي إلى نظام شبه ديكتاتوري، لتحييد الكونجرس.
وباسم هذه الصلاحيات تم تعيين أنصاره من اليمينيين في المحكمة العليا، وفي أجهزة الشرطة والأمن والهجرة، بما يخالف التقاليد
الديمقراطية. وقد عيّن في مواقع القرار في البيت الأبيض، الأقرباء، كابنته إيفانكا وزوجها كوشنر وغيرهما، وأصبحت أكبر دولة في العالم تُحكم عائلياً. ففي عهده لم يعد هناك فاصل بين الشأن العام ومصالح الرئيس الفردية، وهذا مخالف للعرف الأمريكي، لهذا لم تعد الولايات المتحدة متسقة مع نفسها، ومنسجمة مع أخلاقها وقيمها التي رفعتها منذ نشأتها، لذلك انفض الكثيرون من حوله، من مستشاريه والمتعاونين معه من رجال البيت الأبيض، واستقال وأقال وزراء، وتخلص من قادة البنتاجون والمخابرات ومكتب التحقيقات الفيدرالي وكبار موظفي الوزارات..
حتى بعد إعلان هزيمته، أقال وزير الدفاع "مارك إسير"، الذي علق على عزله تعليقاً مثيراً للجدل: "الله يساعدنا، إذا كان بديلي لا يعرف إلا كلمة نعم".. هذه الجملة القصيرة تحمل في طياتها معنى خطير، إذ توحي بأنه رفض تنفيذ أمراً عسكرياً طلبه منه ترامب، ولكننا لا نستطيع أن نتكهن أكان هذا الأمر داخل أمريكا أم خارجها! فترامب ما زال يملك الصلاحيات كرئيس، وقد يتصرف كالنمر الجريح، يريد الثأر والانتقام..
ولقد صدرت كتب عديدة تنتقده أثناء فترة حكمه، ككتاب "الغرفة التي شهدت الأحداث" لمستشاره السابق للأمن القومي "جون بولتون"، الذي يصف فيه ترامب بالرئيس الجاهل بأبسط الحقائق الجغرافية، ولا تتعدى قراراته رغبته في التمسك بمنصبه لفترة ثانية..
حتى محاميه "مايكل كوهين" كتب مذكرات بعنوان "خائن"، تناول فيه نقدا لاذعا لترامب من خلال علاقته به..
وكتاب "الخوف" للصحفي "بوب وودورد"، الذي يصف فيها إدارة ترامب وطريقة تعاملها مع المؤسسات وصنع القرار.
ولقد كتبت ابنة شقيقه كتاباً جريئاً، بعنوان "الكثير لا يكفي.. كيف خلقت عائلة ترامب أخطر رجل في العالم"..
بدأ ترامب عهده بإعلان الحرب على الإسلام والمسلمين، بسن قوانين عنصرية ضد المسلمين وفرض حظر على دخولهم أمريكا، وهو ما تعهد "بايدن" بإلغائه..
لم يكن ترامب رئيساً لكل الأمريكيين، بل كان رئيساً عنصرياً لنصف الأمريكيين، متعصباً لذوي البشرة البيضاء، منحازاً لليمين المتطرف، ولم يستطع أن يخفي عداءه للسود وللأقليات. ولا ننسي إهانته لسلفه "باراك أوباما"، بسبب أصوله الأفريقية، مما أعاد أمريكا إلى عصر التمييز العنصري؛ وما ترتب عنه من زيادة الحالة "الشعبوية" وارتفاع منسوب التطرف في أمريكا.
ولقد دعم الميليشيات المسلحة البيضاء، التي تعادى الأقليات العرقية والدينية، ولذلك تضاعفت معدلات العنف ونسب الجرائم العنصرية في عهده. ولنتذكر حادثة مقتل المواطن الأسود "جورج فلويد" تحت ركبة الشرطي الأبيض، وموجة الغضب التي اجتاحت أمريكا والعالم، عبرت عنها المظاهرات؛ منددة بالسياسات العنصرية لترامب، والممارسات القاسية للشرطة ضد السود، والتي قابلها ترامب باستعلاء ومكابرة، مسانداً لممارسات الشرطة، ومتنكراً للمطالب التي طرحها المتظاهرون..
تعامل مع الإعلام، بحدة وعصبية، وتضايق من نقد الصحافة لسياساته، ضارباً مبدأ حرية الرأى التعبير عرض الحائط، وكأنه رئيس لدولة هامشية، وليست أمريكا، زعيمة العالم الحر، رافعة راية الحرية والديمقراطية في العالم، فشهد عصره أكبر موجة عداء ضد الصحافة من خلال هجومه المستمر عليها..
فشل فشلا ذريعا في التعامل مع وباء كورونا، وتعامل معه باستخفاف وسخرية في البداية، وسماه بـ"الفيروس الصيني"، ثم اتخاذ إجراءات كشفت حقيقة سياساته، التي يحتقر فيها القوي الضعيف، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية أكبر بلاد العالم من حيث الإصابة والوفيات بالمرض. ولقد فضحه الصحفي "وودورد" في كتابه "الغضب"؛ بأنه أخفي عن الأمريكيين حقيقة الوباء لأسباب سياسية انتخابية بحتة..
هذه نبذة موجزة، من سيرة "ترامب" السيئة إبان فترة حكمه، وإذا كان رحيله سينقذ العالم من جنونه وشروره، ليلتقط أنفاسه بعض الوقت وليستريح من هذه الحقبة (الترامبية) السوداء في تاريخ البشرية، فإن بايدن أيضا لن يكون البلسم الذي يداوي الجراح المُثخنة، التي أحدثها ترامب في كل بقعة من هذا الكوكب وخاصة في منطقتنا العربية..
وأخيراً، بايدن ليس هو المخلص الذي تنتظرونه، فهو ليس ملاكاً، ولكن ترامب شيطان كبير يدعم شياطين المنطقة، ويقويهم على شعوبهم..
twitter.com/amiraaboelfetou