قضايا وآراء

مدخل لفهم الشر

1300x600

في نهاية فيلم "الكيف"؛ يُختَتَم الحوار الطويل بين الأخوين "أبو العزم" (أبطال الفيلم) بلطمةٍ فلسفيَّة تجسَّدت في عبارة الكيميائي صلاح، وبدا أنه أسكت بها سفسطات أخيه إلى الأبد؛ إذ قال له: الشر ليس في إرادة السوء وحدها، وإنما في سوء الإرادة. أي أن إرادة الإضرار وتعمُّد الإفساد ليستا وحدهما مفاتيح باب الشر الإنساني، وإنما ينجم المثْل عن انحلال عزم الإرادة الإنسانيَّة، وقُبح رخاوتها الأخلاقيَّة؛ وإن كان صاحبها "سليم القلب" أو "حسن النيَّة"، كما حاول "جمال أبو العزم" إقناع شقيقه (للمرة الأخيرة) في نفس المشهد الختامي. فكأن صلاح يقول لأخيه إن الطريق إلى جهنم مُعبَّدٌ بالنوايا الحسنة، التي لم يستطع أصحابها أن يُحولوها لفعلٍ حسن. إذ غالبا لم تَصِح تلك النوايا ولم تصدُق، فلو أحسنوا الظنَّ لأحسنوا العمل، كما يؤثَر عن الحسن البصري؛ فليس الإيمان بالتمني ولكنَّه ما وقر في القلب وصدقه العمل.

وربما كانت الرسالة الكامنة وراء الفيلم، وفي منطق تاجر المخدرات "سليم البهظ"، الذي تناولناه في مقال سابق؛ أن تدهور الفطرة بئر ليس لها قرار. وأن انتكاس الفطرة لا يحدث فجأة، وإنما هو متتالية بوسعنا الحيلولة دونها ابتداء بـ"الوقوف على البر"، لأن تدشين المتتالية قد يُعجزنا في أكثر الأحيان عن إيقاف تدهورها السريع. إذ أن الغرق في الشهوات يؤدي إلى الاستسلام لها، والانجراف معها؛ حتى إن كانت مما أحلَّه الله من الشهوة. فإن هذا الاستسلام للشهوات الحلال (فما بالك بالحرام!) يؤدي لارتخاء الإرادة، ووهن العزيمة، وتحلُّل النخوة، وفتح كافة مخارج الشبق الإنساني، وشحذ كل مُستقبلات اللذة؛ مما يجعل الانحدار من الولوغ في ما أُحِلَّ من الشهوة إلى المكروه أو المشبوه أمرا ميسورا، يحدُث تلقائيّا وبغير تفكير؛ لتكون المرحلة التالية (والعياذ بالله) هي الانجراف السريع إلى ما حُرِّم، بل وإلى ما غُلِّظَ تحريمه. وربما لهذا السبب كان الصحابة يتركون تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام!

إذ الانجراف السريع وراء الشهوات مُتتالية نفسيَّة وسلوكيَّة فطريَّة، تلقائيَّة سريعة؛ لا يتوقف الإنسان في أي طور من أطوارها للتأمل في حاله، بل لا ينتبه غالبا لما يحدث له بعد أن صار عبدا أسيرا للشهوة. إذ أن انحلال الإرادة وفسادها، باعتياد سُرعة ودوام تلبية كل ما أُحِلَّ من الشهوة؛ يحقق شرط "سوء الإرادة" الذي أشار له الكيميائي في العبارة المذكورة آنفا. إذ به ترتخي أوتار العزيمة وتنحل عقود الأخلاق، ويتيسَّر خروج الشر الإنساني من حيز الكمون إلى مجال النزوع.

 

انحلال الإرادة وفسادها، باعتياد سُرعة ودوام تلبية كل ما أُحِلَّ من الشهوة؛ يحقق شرط "سوء الإرادة"

ورخاوة الشهوة ليس سببها سُرعة وسهولة التلبية فحسب (وتحديدا شهوتي البطن والفرج)، بل يلعب نمط المعيشة الحديث برخاوته، وهيمنة العمل المكتبي وأشباهه مما لا يقتضي الرجال بذل أي جهدٍ بدني؛ دورا محوريّا في ذلك. إذ أن العربي الأول، الذي كان يعشق المرأة اللحيمة، ويُكثر النكاح كما يُكثر من أكل اللحم؛ لم يكُن يُعاني هذه الرخاوة إلا نادرا. وستجد أن أبعد الناس اليوم عن أثقال هذه الرخاوة المُقْعِدَة، مثله في ذلك مثل أسلافنا الأوَل؛ هو من يعمل عملا يدويّا شاقّا يعتصر بدنه، ويُذيب رخاوته؛ فتتقلَّص بذلك تطلُّعاته الماديَّة "مُضطرا" إلى أدنى حدودها، إلى حد الكفاف (وإن كان يتمنى الترف المريح ككل بني آدم!)؛ فيصير هو الأقرب إلى نمط الاستخلاف بصلادته، في حين ولغ أكثر أبناء الأمَّة في نمط الاستملاك وما يقتضيه من استهلاك!

* * *

وحتى يتسنى لنا فهم الشر الإنساني، يتعيَّن علينا تقرير ثلاث بديهيَّات عقديَّة قبليَّة؛ حتى يُحسِنَ المؤمن فهم كيفيَّة خلق الشر وطريقة عمله، ويعرف حدَّه؛ فيقف عنده تأدُّبا:

أولها: أن الله تعالى طليق الإرادة لا يُسأل عما يفعل، وهذا مبدأ الإيمان به. وأنه سُبحانه وتعالى "خلق" ما نصطلح عليه بـ"الشر"، بأن جعل له أسبابا من إرادة الإنسان (التي كفل لها قدرا كبيرا من الحريَّة)، كما خلق الخير؛ فهو الخالق وحده، وما من شيء يقع في كونه بغير إذنه، ولا بالمخالفة لمشيئته. قد يُخالِف الخلق المحبوب الإلهي (بإذنه سبحانه وفي إطار مشيئته) لحكمة اقتضاها تقديره وعلمها بعلمه الأزلي جلَّ ثناؤه، كما في إمهال إبليس ومن تَبِعهُ؛ لكن ما من شيء في هذا كله قد يُخالِف مشيئته أدنى مخالفة، فليس للمخلوق قدرة على "التحايُل" على نواميس الخالِق إلا أن يشاء سبحانه شيئا.

لهذا، فليس للشر وجود مُستقِلٌّ بذاته، كما قد يُفضي منطق من يذهب إلى "تنزيه" المولى سبحانه عن خلق "الشر"؛ فيجعل الشر قُطبا برانيّا ووجودا مُستقلّا متوهَّما يقوم بذاته، كأنه إله مُتجبِّر حُر التصرُّف.

ثانيها: أن المولى عز وجل ليس خيِّرا أو شريرا، بمعاييرنا وألفاظنا، وحسب تصوراتنا القاصِرة؛ لأنه خالق الخير والشر معا. وهو جلَّ شأنه لا يوصف بما يَخلُق (وإن صح العكس)، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا؛ إلا ما وصف به نفسه صراحة. إن الخير والشر يُنسبان له تعالى، لخلقه إياهما وتهيئته أسبابهما؛ لكنه لا يوصف بهما، لأن الخير (والشر!) بيده وهو على كل شيء قدير.

ومن أهم أسباب توقفنا في توصيفه سبحانه وتعالى بذلك، أن استعمالنا للألفاظ نسبي محكوم بمن يقع عليه الابتلاء، ومنظوره؛ كما يقول الشاعر: مصائب قوم عند قوم فوائد. بل إن ارتكاب الإثم في حق إنسي آخر سمَّاه القرآن تعديا على حدود الله، ولم يُسمه شرّا بإطلاق. ومن ثم، كان "الشر" هو تعدي الحد الذي شرَّعه الله (لحكمة أرادها ولو لم ندركها)، والخير هو التزام هذا الحد (فالخير طاعته والشر معصيته)، أما تسمية مآلات الالتزام أو التعدي؛ فأمر لا يُحسنه بنو آدم، وما تعبَّدهم الله به؛ بل إنه يُضِلهم عن الحق إذ يصرفهم عما تكسبه نفوسهم إلى الانشغال بالواقع الذي تُشكله هذه النفوس، التي غفلوا عنها ابتداء! وإن الفعل ذاته قد يصير طاعة كما قد يصير إثما، إذا تغير السياق وتغيَّر المنظور؛ كما في مضاجعة امرأة أجنبية عنك، أو مضاجعتها هي نفسها بعد العقد عليها عقدا شرعيّا صحيحا. فالفعل نفسه يتغيَّر حكمه إذا تغيَّر سياقه وملابساته.

وكذلك في نزول القدر المقدور، كالصواعق والسيول؛ فإن حكمها نسبي يختلف باختلاف المنظور. وما زال القرآن يؤنبنا لكراهتنا أمورا هي الخير لنا، وحبنا أمورا هي شر لنا؛ ليُعلمنا أن استعمالنا للألفاظ وتوصيفنا للأقدار غير دقيق، بل وفوق تحيُّزه الساذج؛ فإنه غالبا توصيف غير صحيح. وعلى المؤمن لزوم الأدب مع الله، فهو سبحانه يعلم ونحن لا نعلم. ومن ذلك مثلا أن الحد والقصاص قد يكونان "خيرا" لأهل الضحيَّة (وللمجتمع) و"شرّا" لأهل المقتص منه، لكنَّ الخير الجلي فيهما هو طاعة الله. كذا، قد يكون المطر شرّا لمن يسكنون بطن وادٍ، إذ يُغرقهم؛ لكنَّه خير ونماء لمن يسكنون السفح أو أعلى التل. بل وحتى المرض؛ فقد يكون شرّا ظاهرا لمن أصيب به، لكنَّه خير للطبيب الذي يتكسَّب بعلاج المرضى ويُطعم من الكسب عياله. بل قد يكون المرض خيرا لمن أصيب به؛ إذ يُصفي نفسه ويُعيده إلى ربه.

إن الخير والشر لا يوجدان (ولا يتصارعان) وجودا موضوعيّا برانيّا مُطلقا في الحياة الدنيا، وإنما يوجدان بصورٍ نسبيَّة في روع الإنسان، وفي تصوره؛ اعتمادا على من وقع عليه "الابتلاء" وزاوية نظر المتكلم.

 

إن الخير والشر لا يوجدان (ولا يتصارعان) وجودا موضوعيّا برانيّا مُطلقا في الحياة الدنيا، وإنما يوجدان بصورٍ نسبيَّة في روع الإنسان، وفي تصوره؛ اعتمادا على من وقع عليه "الابتلاء" وزاوية نظر المتكلم

ثالثها: أن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء، وليست فردوسا أو نعيما؛ بل هي دارُ معبرٍ إلى دار مقر. ومن ثم، فهي دار ابتلاء وألم وكبد أبدي؛ لا راحة فيها، ولا يذوق الإنسان فيها شيئا من التنعُّم إلا وجاورته منغصات وآلام شتى؛ فلا تُدرَك نعمة إلا بفوات نِعَم. وهذا ليس خلق الفردوس، ولا طبيعة الكسب الفردوسي الخالي من الأكدار. وقد اقتضت الحكمة الإلهيَّة أن يكون الابتلاء لكل بني آدم (بلا استثناء من نبي مُرسل أو ولي مُقرَّب) إقامة للحجَّة عليهم، ليعرف كل واحدٍ منهم نفسه معرفة عمليَّة؛ فيُقيم عليها الحُجَّة بعمله قبل أن يُرَد إلى ربه فيوفيه حسابه.

وأعظم هذا الابتلاء لا في سلب المنحة أو نزول المحنة، وإنما في استشعار الإنسان لهذا التغيُّر ولتقلُّب الأقدار على قلبه، وتقلُّب قلبه مع تقلُّب الأقدار؛ فهذا هو الابتلاء الحقيقي. وكم من بشري يُفجع بالخبر قبل أن يفجعه الأثر.

* * *

وإذا كان رب العزة سبحانه وتعالى هو خالق "الشر" كما خلق "الخير"، إلا أنَّه إذ جعل الخير يصدُر منه مباشرة إلى خلقه، فيكون كل قضائه خيرا وكل قدره رحمة؛ فإنه قد قضى لـ"الشر" سببا وحيدا، ألا وهو إرادة بني آدم (التي كفل له حُريتها في الاختيار)، إذ ينصرِفُ عن ربه، ويتجاوز حدوده؛ مُنصرفا إلى هواه وشهواته، ومحاولا صياغة العالم وفق هذا الثِقَل الطيني البائس، ليكون "الشر" في جوهره وفي حقيقة أمره هو: محاولتنا لا تعدي حدود الله فحسب، بل محاولة فرض هذا التعدي على الوجود البرَّاني المخلوق كله.

وسنُفصل في مقالنا التالي (إن شاء الله) كيفيَّة تشكُّل الشر (الإنساني) وتخلُّقه من رغباتنا وأفعالنا وإرادتنا، التي أراد لنا خالقنا تعالى أن نُبتلى بها، وبكل اختيار يصدُر عنها؛ فإن الابتلاء ليس في الآخرين، بقدر ما هو في صدورنا.