قضايا وآراء

بدائل تركيا في أوروبا

1300x600
حين وصل حزب العدالة والتنمية التركي للحكم قبل نحو عقدين من الزمن، كانت أبرز وعوده هو دخول الاتحاد الأوروبي.. سنوات من المفاوضات الشاقة وقوائم من المطالب كثيرة انتهت إلى تعقيدات لم تسفر عن شيء. الملفت للنظر أن علاقة الاتحاد والعديد من دوله مع تركيا تعقدت سياسيا، في الوقت الذي تعزز فيه الاقتصاد التركي ودخل الاتحاد في دوامة أزمات اقتصادية. وقد بقي التعاون الاضطراري بين الطرفين قائما في مجالات مثل الأمن واللاجئين، وأحيانا بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل سوريا، كما بقيت المناوشات الإعلامية حاضرة بين الطرفين.

الاتحاد الأوروبي بالنسبة لتركيا ليس مجرد محاولة زواج فاشلة، وإنما فضاء استراتيجي للجوار ينبغي صياغة إطار للتعايش معه. وتركيا بالنسبة للاتحاد دولة مركزية على حدوده الشرقية، تنتمي إليه بحكم الجغرافيا ولا مفر في التعاون معها في كثير من الملفات. ويصدق في الطرفين شعر المتنبي الذي يقول:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى    عدوا له ما من صداقته بُد

ومن يقرأ بين سطور الأخبار خلال السنوات الماضية يلحظ أن أزمات كلا الطرفين تصب بشكل أو بآخر في مصلحة الطرف المقابل. أبرز هذه الأزمات مثلا هي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو ما يعرف بالبريكسيت، وهي أزمة برهنت للداخل التركي ولمؤسسات الاتحاد في آن واحد أن عضوية هذا النادي لم تعد منتهى الآمال كما تم تصويره سابقا، وأن تململ عدد من الدول الأعضاء ورغبتها في الانفصال أصبح حقيقة واقعة، الأمر الذي يعني أن تركيا لم تعد ملزمة بالوقوف كثيرا على الأبواب المغلقة للاتحاد الأوروبي.

من جانب آخر، تمثل تركيا أحد أطواق النجاة للاقتصاد البريطاني الذي يبحث عن شركاء يسدون الفراغ الذي سيتركه الجار الأوروبي، الأمر لم يعد تكهنات أو تحليلات، وإنما خرج إلى إطار التصريحات السياسية المعلنة للطرفين. فقد أكد السفير البريطاني في أنقرة دومينيك شيلكوت في أيلول/ سبتمبر الماضي أن فرص التعاون بين البلدين ستتعزز مع خروج بلاده من الاتحاد الأوروبي.

وفي الحقيقة، فإن خطوات التعاون تسري على قدم وساق حتى قبل الخروج الفعلي لبريطانيا، فعلى سبيل المثال أبرم صندوق التقاعد العسكري التركي "أوياك" صفقة للاستحواذ على شركة "بريتيش ستيل" البريطانية للصلب، وهي ثاني أكبر مصنع للصلب في بريطانيا.

بريطانيا تمثل إذا لتركيا بديلا استراتيجيا واقتصاديا في أوروبا، والعكس صحيح. وهي من المفارقات التي تلتقي فيها مصالح حكومة غربية ذات صبغة يمينية مع تركيا. وربما هناك بعض التفسيرات التاريخية في هذا الأمر، فتاريخيا كانت بريطانيا حليفا للسلطنة العثمانية لسنوات طويلة، بعكس العديد من الممالك والإمبراطوريات الأوروبية الأخرى. وهو أمر له انعكاسات سياسية وعسكرية سابقة وقد تكون مستقبلية أيضا، فبريطانيا عرقلت مشروع قرار أوروبي بحظر تصدير السلاح لتركيا في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي ردا على إطلاقها عملية "نبع السلام" في شمال شرق سوريا.

أوكرانيا تمثل أيضا بديلا أوروبيا لتركيا تحاول التمدد فيه، وهي بذلك تدخل حلبة المنافسة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جهة، وروسيا من جهة أخرى. فأوكرانيا ليست دولة تماس استراتيجي بين أوروبا وروسيا فقط، ولكنها أكبر الدول الأوروبية من حيث المساحة، وتسعى تركيا وأوكرانيا لرفع حجم التبادل التجاري بينهما ليصل إلى 10 مليارات دولار سنويا.

ولا يتسع المقام هنا لذكر عديد من البدائل الأوروبية، مثل العلاقة مع البوسنة والهرسك ودول البلقان التي تعتبرها تركيا امتدادا تاريخيا لها، فضلا عن أطر التعاون العسكري والاقتصادي والثقافي التي تمضي على قدم وساق. وهي أمور تدل على حقيقة واحدة، وهي أن العلاقات التركية الأوروبية ستظل مركبة كما كانت خلال القرون الماضية في عهد السلطنة العثمانية. سيظل هناك حلفاء وأعداء وتضارب للمصالح من ناحية، وتعاون من ناحية أخرى. وربما المجال الذي لم تستطع تركيا أن تتمدد فيه حتى الآن هو أوضاع الأقليات المسلمة التي تزداد معاناتها يوما بعد يوم بسبب مشاكل الإسلاموفوبيا، وهذا يستدعي نقاشا آخر.