كتاب عربي 21

حسابات الربح والخسارة في تشكيل حكومة تونس

1300x600
من خسر ماذا في إسقاط حكومة السيد الحبيب الجملي؟ لقد كان مشهد إسقاطها يوم التزكية البرلمانية مشهدا احتفاليا عظيما، ولكن هل كان هناك منتصرون وخاسرون، أم إن الجميع خسروا وعليه إعادة تقدير حساباته وموقعه في الحكومة القادمة؟ لقد بدأت تصريحات معتدلة تظهر وتعلن مواقف جديدة للدخول في ما اصطلح عليه بحكومة الرئيس. لقد اختفى المشهد الاحتفالي وظهر المحتفلون بعد ساعات حزانى يخفضون سقف الخطاب، ويقدمون فجأة خطاب المصلحة الوطنية.

منطق توريط الآخر

لا أرى داعيا لإعادة سرد الوقائع منذ يوم الانتخابات ومسار التكليف والتفاوض ثم السقوط، ولكن وجب أن نبرز خلفية مهمة حكمت كل هذا المسار، وهي توريط الحزب الفائز (حزب النهضة الإسلامي) في أمرين تتوقع منهما نتيجة مدمرة على وجوده السياسي وعلى مشاركته الراهنة والمستقبلية في المشهد السياسي التونسي..

الأمر الأول هو توريط الحزب الفائز في إدارة أزمة اقتصادية كبيرة يعيشها البلد، عبر الإعراض عن مشاركته في إدارتها واتهامه قبل ذلك بخلقها، كما لو أنه كان يحكم وحده قبل الانتخابات. يبدأ الأمر بتحميله مسؤولية تاريخية تتناسى دور حزب النداء وشقوقه ورئيسه في إيراد البلد مورد تهلكة منذ 2014، ثم التنصل من مساعدته. والثاني دفعه وهو في موقع المسؤولية إلى الاستعانة بشركاء للحكم تم تصنيفهم كفاسدين لا يرجى صلاحهم. وهكذا يكون الحزب الأول حزبا فاشلا ومتحالفا مع الفساد، ثم انتظار نتيجة هلاكه القريبة وقطف ثمرة انهياره في صندوق انتخابي قادم.

منطق التوريط في أزمة الحكم وانتظار ثمرته السياسية هو المنطق الذي حكم مواقف الأحزاب التي دعيت إلى المشاركة، فتلددت ووضعت شروطا تدل على خطتها المكشوفة. ورغم الترضيات فقد ظلت تدفع الحزب الأول إلى ورطته حتى اللحظة الأخيرة فلم يقع في الفخ، فسقطت الحكومة ووجدت الأحزاب نفسها أمام استحقاق جديد يمكن للحزب الأول أن لا يتحمل فيه المسؤولية، وأن تحال إليها الأزمة، فيما الحزب الأول يملك حق البقاء في المعارضة. لقد كان إسقاط الحكومة مناورة قلبت الموازين 180 درجة، فإذا المورطون متورطون في استحقاق الحكم. إسقاط الحكومة حوّل الأحزاب إلى مشكلة بعد أن توهموا أنهم الحل.

خريطة المواقع السياسية صباح الاحتفال بعيد الثورة

ما زال الحزب الفائز في موقعه بكل رصيده الأول، وأضيف إليه رصيد جديد سيكبر بقدر تراجعات الآخرين ودخولهم في منطق المصلحة الوطنية مقدمة على المصلحة الحزبية. لقد سمعنا كلاما كثيرا في أوساط مختلفة شعبية ونخبوية أن النهضة قد بذلت ما في وسعها، وأنها أقامت الحجة على الجميع. فهناك قوم كثير تابعوا مشهد التكليف والتفاوض وسمعوا كل الخطابات وقيموا كل المواقف، وأنصفوا النهضة من خصومها. ظهر حزب النهضة جديا وقدم خطاب إجماع وطني، وتنازل عن الكثير من أجل الدخول في مرحلة إنجاز (حل الأزمة)، فيما ظهر الآخرون، وخاصة حزبي التيار وحركة الشعب، بمظهر أحزاب الطلبة المزايدين من فوق ربوة الطهورية الثورية غير المنتجة شعبيا. وقال كثيرون إنه لو أعيدت الانتخابات الآن فإنهم سيصوتون للنهضة نكاية، خاصة في هؤلاء الأطفال السياسيين غير الجادين.

هؤلاء (الأطفال السياسيون) يقفون على أبواب خسارة أكبر؛ لأن خطابهم المتعالي بدأ ينكسر ويعلنون المشاركة في أية حكومة دون شروط مسبقة وبأي قدر متاح، وربما يسندون الحكومة برلمانيا دون المشاركة فيها مهما كانت الشخصية التي ستكونها ومهما كانت مكوناتها، بما في ذلك أن يكون فيها مكون نهضوي كبير. بل سمعنا خطابا متسامحا مع حزب القروي (قلب تونس)، إذ صار الفساد محصورا في رئيسه فقط وليس في نصف المليون شخص الذين منحوه أصواتهم. لقد نسي هؤلاء الأطفال أن الشعب يراقب المشهد بانتباه وهم يواجهون الآن سؤالا شعبيا: لماذا وضعتم شروطا على النهضة عطلت كل شيء ولم تضعوا شروطا على غيرها؟

انقلبت الورطة وخرج حزب النهضة منها سليما معافى متماسكا، وهو الآن في موقع تفاوضي جيد على تشكيل الحكومة القادمة أو اختيار موقع المعارضة بكل أريحية، بما يجعل خصومه أمام خيار التحالف مع القروي ولحس كل خطاب الطهورية السياسية والثورية العالية، أو الخضوع لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها تعصف برصيدهم الذي حصلوه بأكبر البقايا، حيث لبعضهم نواب بأقل من 400 صوت فقط.

الذين أسقطوا حكومة الجملي أسقطوا أنفسهم أمام حكومة الرئيس التي دفعوا إليها، فإذا هم يدخلون المرحلة الجديدة بلا سند ولا قوة، وخصمهم اللدود يناور بكل قوته وتماسكه الداخلي.

الحيلة في ترك الحيلة

لم يعد إقصاء النهضة ممكنا من المشهد السياسي التونسي، وكل مناورة سياسية تهدف إلى ذلك مصيرها الفشل الذريع ولو بالقانون الانتخابي الحالي الذي فصل لإقصائها أو تخفيض قوتها. وهذا هو الانتصار الذي بحثت عنه النهضة منذ الثورة.

لقد كان الظن/ الخطاب دوما أنها تريد الاستيلاء على السلطة لوحدها، وصورها إعلام خصومها بصورة الغول الذي يلتهم كل شيء، ولكن هدفها كان أن تتحول إلى مكوّن فعال في مشهد تعددي لا يمكن التفكير في إقصائه، وقد مكنها خصومها من ذلك كما أرادت وقت ما أرادت، وهذا هو انتصارها الحاسم.

كيف ما تم تشكيل الحكومة والمعارضة، فالنهضة في موقع أخذ ما تريد بقدر ما تريد، بينما خصومها الذين أسقطوا حكومة الجملي واقفون أمام خيارات ضيقة: إما التحالف معها مكرهين والاكتفاء بما تسمح به، خاصة بعد ما تبين أنها تنسق موقفها مع نواب ائتلاف الكرامة (أي كتلة بـ73 نائب) أو مواصلة إقصائها، بما يضعهم في وضع التحالف مع فلول حزب النداء (قلب تونس وتحيا تونس وحزب الفاشية التجمعي) لتوليف رصيد 109 نواب دون النهضة، بما يسقط عنهم كل حجج خطابهم الثوري الذي واجهوا به النهضة ويعري نواياهم أمام شعب يزداد وعيه كل يوم، رغم ملله الظاهر من المناورات.

في حسابات الربح والخسارة يعيد الجميع الآن حساباته، وينتهي إلى أن إقصاء النهضة قد صار أمرا مستحيلا، فلم يبق إلا التعامل معها في أي موقع كانت بصفتها الركن الثابت في المشهد السياسي، ولذلك نرى أن معركة إسقاط حكومة الحبيب الجملي كانت آخر معارك الإقصاء السياسي في تونس. وهنا أرادت النهضة أن تكون، بقطع النظر عن الحجم الذي يمكن أن تأخذه من الحكومة. فهو لم يكن هدفا رئيسيا وسيزيدها التواضع في توليف الحكومة الآن قربا من عوام الناس الذين صاروا يرونها عنصر تهدئة وتعديل وتسهيل. لقد صارت جزءا من الحل وربما الحل كله، بينما صار خصومها جزءا من المشكل أو المشكل كله.

لقد حول إسقاط حكومة الجملي النهضة إلى جزء أساسي من حلول أزمة تونس، بعد أن كان يهدف إلى وضعها في موضع المشكل/ العبء على عاهل البلد. يمكن للنهضة أن تشكر خصومها على غبائهم، وتتقدم لمؤتمرها الحادي عشر متماسكة.