كتاب عربي 21

نَظْرَة إلى.. حَصَادِ تَطَرُّفٍ في المَجَالِ الثَّقافي

1300x600

في أَثناء قراءتي لسيرة الكاتب الكبير لوشين، وفي لفظ "لو شون" (1881 ـ 1936 م) وبعض أعماله، وهو من الثوريين الصينيين الأوائل ومن الذين حملوا راية التغيير والثورة على القديم في المجتمع الصيني إبان نشوء جمهورية الصين ونضالها ضد عوامل التخلف ومن أجل التحديث في الداخل وضد تحديات الاستعمار في الخارج.. وقفت على ما يمكن أن يستغرب بعضُ الصينيين فهمي له وهو تأثُّر لوشين بمفهوم الحداثة الفوضوية ـ التدميرية التي سادت أوروبا في بداية القرن العشرين ونمت في دِمَن الحرب العالمية الأولى واستمر نموها في دِمن الحرب العالمية الثانية. 

 

تدمير مقابر الأجداد

ما دعا إليه لوشين في وقت ما وصولاً إلى التحديث والمجتمع الحديث، رأى فيه عدلاً وحقاً وروحاً ثورية جليَّة متجلية وشرعية ثورية حاكمة لكل شرعية وهيمنة عليها.. ولكن فيه أيضاً وبالقدر ذاته مخاطر على الحضارة والشخصية الثقافية الصينية وأصولها وأصالتها، وعلى الحسن والجيد والصالح من تقاليدها. 

يقول لوشين الذي أطلق على أعماله "تدمير مقابر الأجداد": "إن أمامنا مهمة عاجلة هي: أولاً: البقاء، وثانياً: اللباس الدافي والطعام الكافي، وثالثاً: التنمية. وإذا كانت هناك عقبات للتقدم نحو المستقبل يجب الإطاحة بها سواء أكانت قديمة أو حديثة، بشراً أو أشباحاً، ولو كانت تلك العراقيل هي "سان فين و"وو ديان"، ومئات الكتب المطبوعة في أسرة سونغ وآلاف الكتب المطبوعة في أسرة يوان، أو الأحجار الكريمة الثمينة ورسومات الألغاز القديمة، أو الأصنام البوذية المذهبة واليشمية، أو الأدوية الصينية التقليدية الشهيرة المتوارثة، أو المراهم المصنوعة سراً".

 

سجل الأدب الصيني وصفاً وحدد موقفاً من الثورة الثقافية التي جرت في عهد "ماو تسي تونغ" ومما جرى في أثنائها من ممارسات أتت على الكثير مما يشكل رصيداً ثقافياً وحضارياً للصين


وأخذه غُلوٌّ في ذلك حتى أنه وجه نداء للشباب الصيني بالامتناع عن مطالعة الكتب الصينية وكتب الخرز النافر، معبراً عن حماسته وتصميمه على معارضته الكاملة للإقطاعية، و"المعارضة الكاملة للتقاليد". (أنظر إن شئت: الصّينيّون المعاصرون ـ التقدّم نحو المستقبل انطلاقاً من الماضي ـ الجزء الأول ـ تأليف: وو بَن، ص 29). 

إن ما كان ينشُدُه لوشين مشروع نظرياً من وجهة نظر "المشروعية الثورية"، ولكن ما ثار عليه وما تطلّع إليه يستدعي ثورة واعية تقوم على معرفة واعية وأفق واسع وانتماء حضاريٍّ عميقٍ يدرك أبعاد الهوية ومقوماتها ودور التراث والموروث فيها. وما قاله لوشين مما أشرت إليه يلتقي على نحو مثير مع دعوة الحداثيين والفوضويين الأوروبيين الذين يقولون في تحديد لرؤيتهم ومواقفهم من التراث والمستقر الاجتماعي: "ليس هناك أي غموض: فـ "التقاليد" أو "التراث" جميع تقاليد العالم موضوعة في سلة واحدة لا تساوي، ببساطة، إلا عبودية خانعة، في حين أن الحداثة تساوي الحرية؛ ليست هناك أية نهايات مفتوحة أو مهملة". امتشقوا معاولكم، تنكبوا فؤوسكم ومطارقكم، وبادروا إلى التحطيم. حطموا المدن المجللة بالوقار بلا رحمة! تعالوا هيا أشعلوا النار برفوف المكتبات، حوّلوا مجاري القنوات حتى تغرق المتاحف!؟ فليأت فرسان الحرائق المبتهجون بأصابعهم المتفحمة. !! هاهم أولاء قد وصلوا.."./ أنظر إن شئت: "حداثة التخلف ص 15 وهو عنوان لكتاب عنوانه الأصلي بالإنكليزية: the experrience of Modernity   تأليف: مارشال بيرمان." 

 

ماو تسي تونغ والثورة الثقافية


لقد سجل الأدب الصيني وصفاً وحدد موقفاً من الثورة الثقافية التي جرت في عهد "ماو تسي تونغ" ومما جرى في أثنائها من ممارسات أتت على الكثير مما يشكل رصيداً ثقافياً وحضارياً للصين. ففي رواية "عاشِقُ اليَشْم" تقول الكاتبة الصينية المسلِمة هُدى، ويكتبون اسمها هناك هودى: "فجأة اقتحم دار الثقافة والذوق جماعة من الحرس الأحمر الشباب بالزي العسكري، فخربوا الجدار الحاجز الخشبي ذا الزخارف المنقوشة، وطمسوا لوحات الممر بطلاء أسود، وكسروا باب الغرفة السرية، وخطفوا سائر مخزونها".. ومخزونها كان من قطع اليشم النادر المشغول بعناية فنية فائقة حافظ عليها ملك اليشم ونقلها في الحرب إلى لندن ثم عاد بها إلى بكين.. ليحفظ ثروة الوطن فيه.. فكان أن لَقيَت هذا المصير.. ولم يتوقف الانتهاك عند حدود الممتلكات والأجساد والتاريخ والمعتقدات، وإنما وصل إلى الأموات والمقابر. ففي الجبل الغربي قرب بكين أرض خضراء، كانت هذه الأرض هي المقبرة العامة للمسلمين لكن الكارثة الخطيرة، ألا وهي الثورة الثقافية، قد اكتسحت المقبرة فذهبت بأكوام القبور والشواهد، تاركة هذه الأراضي الخصبة تغذي أشجار الفواكه فتعطي ثماراً وافرة كل سنة."؟!

لقد تبين أن هذه دعوة إلى الهدم، وليست دعوة إلى الهدم البنَّاء أو الهدم من أجل البناء، وهناك فرق بينهما يحدده برتراند راسل على النحو الآتي: "نبني عندما ننتج بنية طِبْقَ تصميم سابق، ونهدم عندما نطلق القوى الطبيعية لتغيّر من بنية موجودة، غير مهتمين بما تكون عليه البنية الجديدة" (أنظر إن شئت: "كتاب: في التربية: ص98.).

 

ما كان ينشُدُه لوشين مشروع نظرياً من وجهة نظر "المشروعية الثورية"، ولكن ما ثار عليه وما تطلّع إليه يستدعي ثورة واعية تقوم على معرفة واعية وأفق واسع وانتماء حضاريٍّ عميقٍ يدرك أبعاد الهوية ومقوماتها ودور التراث والموروث فيها.


وحين نقارن هذه الدعوة التي أباحت: "الإطاحة بمئات الكتب المطبوعة في أسرة سونغ وآلاف الكتب المطبوعة في أسرة يوان، وبالأحجار الكريمة الثمينة ورسومات الألغاز القديمة، وبالأصنام البوذية المذهبة واليشمية، والأدوية الصينية التقليدية الشهيرة المتوارثة إلخ".. نسأل أنفسنا: أليس لوشين وأمثاله هم الآباء الروحيون للثورة الثقافية على نحو ما؟! ألا تكمن دعوة "ماو تسي تونغ" للشباب الصينيين وخوفه عليهم من أن يقرأوا الشعر القديم ويتأثروا بالثقافة الصينية القديمة.. ألا تكمن في دعوة لوشين وأمثاله من "الثوريين المتطرفين"، وفي ما كرسوا له كتاباتهم ونشاطاتهم، وفي حماستهم غير المدروسة وتأثرهم بفوضويي بداية القرن التاسع عشر وبمن أصابهم بؤسٌ روحي جَرَّاء الحربين العالميتين!؟ 

إنه سؤال أرجو أن أكون مخطئاً في طرحه على هذا النحو ومخطئاً أيضاً في تقرِّي أشباهه واستقرائها في "ثوريات" المتطرفين وقصور القاصرين الداعين إلى التدمير والتخريب الماديين والمعنويين، وإلى قتل الماضي بكل ما فيه بعد تشويهه، وإلى إرهاب الحاضر وتسميم المستقبل بدعوات من مثل دعوات "مفكري التصفيات الطائفية المتبادلة، والحروب البَيْنيِّة" في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، لتحقيق انتصارات سياسية ومذهبية وأشباهها على مَن هم في الضفة الأخرى من نهر الدم العربي ـ الإسلامي المُهَراق، بعنجهية لا تستحق سوى الازدراء، وينتمي أصحابُها ودعاتُها إلى الشَّرِّ بامتياز.؟!
   
ومن أسف أن مثل هذه الدعوات القائمة على التطرف والفوضى والتخريب وعلى الجهل بالقيمي والإنساني، بالتاريخي والحضاري.. نراها اليوم في بعض بلداننا، ونلمسها في اجترار أيديولوجي لما سبق من فكر وتصرف عدمي متطرف جرى في تاريخ شابَه مرض بسبب الأزمات والحروب، ونجده يتجدد في دعوات "فكرية ثورية أو تحديثية أو انبتاتيَّة أو.. أو.."، ونلمس تأثيره في توجهات وممارسات أقرب للإباحة والاستباحة تطال بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية..

 وربما كان مما يحتاج إلى اهتمامٍ وتبصُّرٍ وتدبُّر..