أخبار ثقافية

سمير سيف: صوت جريء وصورة ساخرة

سمير سيف

رغم تواصل تراكم إنتاجه في السنوات الأخيرة، إلا أن المخرج المصري سمير سيف الذي توفي قبل أيام بقي يحمل معه نجاحات الثمانينيات من القرن الماضي باعتبارها لحظة إشعاع لم تتوفر له لاحقاً، وهو في ذلك مثل كثيرين من أبناء جيله حرصوا على تطوير مفرداتهم السينمائية لكن الجمهور ظلّ مجذوباً إلى نجاحاته الأولى.

"الراقصة والطبّال"، "المشبوه"، "المطارد"، "شمس الزناتي"، "آخر الرجال المحترمين".. تلك بعض من أعمال سيف التي حقّقت نجاحات سواء في شبابيك قاعات السينما حين صدورها أو من خلال قراءات نقدية متأنية لاحقاً. في تلك السنوات بدا واضحاً أن سمير سيف، الذي يمكن اعتباره حينها من المخرجين الشباب، يضع أقدامه في طريق مسيرة سينمائية حافلة، غير أن الأمور لم تسر كذلك، ولا يفسّر الأمر تراجعا في موهبة الرجل وإنما في سياق عام عرفته السينما المصرية، وأخفق الكثيرون من جيل سيف في التأقلم معه.

المدرسة الحقيقية للمخرجين 


رغم أن المخرج المصري تخرّج من المعهد العالي للسينما، إلا أن جامعته الأهم كانت الوقوف خلف مخرجين عمالقة من الجيل الذي سبقه، وخصوصاً حسن الإمام الذي التقط منه تلك التوليفة العجيبة بين القول الجريء والعميق سياسياً وفكرياً، وبساطة الصورة وقدرتها على صناعة السخرية الهادفة. وإذا كان فيلمه "الراقصة والسياسي" قد أخذ موقعاً أساسياً في خارطة الأعمال السياسية الجريئة في تاريخ السينما المصرية، فيمكن أن نعيد ذلك إلى حبل سرّي يربطه بفيلم "خلي بالك من زوزو" الذي أخرجه الإمام.. القاسم المشترك هو تمرّد الراقصة على منظومة اجتماعية ما سيؤدّي إلى تعريتها بالكامل، مرة ضمن فضاء اجتماعي من الأناس العاديين، ومرة في دوائر القرار السياسي في "الراقصة والطبال".


في سنوات المجد تلك، إذا جاز التعبير، تميّز سيف بقدرة على إدارة النجوم، خصوصاً عادل إمام ونور الشريف في أوج عطائهما. لا يبدوان كما في أفلام أخرى كثيرة سوى عناصر موظفة بشكل جيّد في بناء الفيلم على مستوى الحبكة والتجسيد، وهو أمر استمرّ في سنوات لاحقة كان واضحاً أن سيف يعتمد على مكانة حقّقها مثل جيله. تلك الفترة التي حقّق فيها نجاحات لا تنكر مثل "سوق المتعة" (2000) و"معالي الوزير" (2002) لكنها كانت مجرّد لمعات في سماء قلّت نجومها.


استفاد سيف كثيرا من انفصاله عن كتابة السيناريو، وهو ما لم يكن يحبّذه الكثير من زملائه، وقد نجح بالخصوص في إنجاز سيناريوهات وحيد حامد، وما تتميّز به من حيوية ومرونة، حتى اعتبر في وقت من الأوقات ثالث ثلاثة مع حامد وعادل إمام، والأخيران استمرا في تحقيق النجاحات معاً، بعد الثمانينات، فيما جرّب سيف مسالك أخرى.


زمن الدراما


تحجب المسيرة السينمائية لسيف ما حقّقه في التلفزيون، وهما تواجد علامات أساسيّتان، الأولى في 1987 حين أخرج مسلسل "البشائر" ليحدث نقلة في الدراما التلفزيون والصورة التي تقدّمها ببناء جسر مع لغة السينما من ناحية ونجومها وطرق أدائهم من ناحية أخرى. هنا حضرت أسماء محمود عبد العزيز ومديحة كامل وأمينة رزق لصناعة هالة مختلفة للعمل الدرامي، تميّزت ببساطة الحكاية والصورة، وفن التشويق، وتسريب الكوميديا مع مضامين عميقة. 


وفي لغة بصرية مختلفة تماماً، قدّم سيف مسلسل 'أوان الورد" (2000)، وافتتح به موجة من الأعمال الدرامية ذات اللغة الشعرية العالية والكثافة التشويقية، كما اعتمد على نجومية يسرا السينمائية في صناعة إشعاع حقيقي للعمل، في وقت بدا واضحاً أم الدراما بدأت تأخذ الأسبقية على السينما. ستلحق بـ"أوان الورد" مسلسلات كثيرة مثل "نور الصباح"، و"الدم والنار"، و"السيندرلا" غير أنها لم تحقق نجاحات لافتة. بقي اسم سمير سيف إلى رحيله شاهداً بالأساس على فترة التدفق الفني الذي عاشته مصر في ثمانينات القرن الماضي، وبقي الأمر مثل قوس فُتح وأغلق في نفس العقد.

لن نقع في السنوات الأخيرة على عمل لافت لسمير سيف، ربما باستثناء فيلمه "أوغسطينوس ابن دموعها" (2016) والذي أدار فيه ممثلين تونسيين بالأساس، فبدا مختلفاً عن أسلوبه الفنّي الذي عرف به، خصوصاً وأنه لم يذهب إلى السينما التاريخية في وقت سابق. ولعلّ أبرز ما يشدّ في هذا العمل هو إعادة الملامح الشمال أفريقية لأحد رموز الثقافة الغربية اليوم، وليس الأمر متعلقا بسحنات الممثلين بل أيضاً بإدارة سيف للحبكة الروائية من جهة والروح المسيحية الشرقية التي طبعت الفيلم، بعيداً عن الرؤية المكرّسة للقديس أوغسطينوس في المخيال العالمي الحالي حيث أضيفت إليه الكثير من طبائع الحداثة الغربية. هنا نلمس كيف أن المخرج المصري كان يعرف كيف يحوّل كل شيء يتناوله إلى مادة تشبهه وتشبه مساره الفنّي وخياراته.