قضايا وآراء

هل يقود الرئيس المنتخب تونس نحو التغيير؟

1300x600

جاء فوز المرشح الرئاسي "قيس سعيد"، أستاذ القانون الدستوري المتقاعد، مذهلاً، حيث حصل على 72.71 بالمئة من أصوات الناخبين في مقابل 27.29 بالمئة لمنافسه "نبيل القروي". كما شكلت الطريقة التي خاض بها غمار الاقتراع الرئاسي ظاهرة استثنائية بكل المقاييس في المنطقة العربية، وربما في الكثير من دول العالم، فهو تقدم لحلبة التنافس مستقلا ودون غطاء سياسي أو حزبي، ولم يعتمد الوسائل المألوفة في الحملات الانتخابية من استعمال للموارد المالية العامة والخاصة، واستغلال شبكات النفوذ الرمزي، كما ظل بعيدا عن أضواء الإعلام بكل ألوانه، إلا في لحظات محدودة.

أما قاعدته الانتخابية فشملت أساساً الفئات العُمرية المتراوح سنّها ما بين 18 و24 عاما، المكوّنة بشكل رئيس من طلاب وطالبات الجامعات، وشريحة المثقفين، والعاطلين عن العمل، والمنتسبين عموما إلى الطبقة الوسطى، التي تراجعت أوضاعُها في السنوات الأخيرة في تونس. وممّا ساعد على التفاف هذه الفئات العريضة من المجتمع التونسي حول المرشح الرئاسي، اعتماد "قيس سعيد" خطاباً واضحاً في مبناه، وصادقا في معناه، وإن لم يتضمّن برامجَ مفصّلة ودقيقة، كما هو معهود ومتعارف عليه في الحملات الانتخابية الرئاسية في النظم الديمقراطية التنافسية.

 

ممّا ساعد على التفاف هذه الفئات العريضة من المجتمع التونسي حول المرشح الرئاسي، اعتماد "قيس سعيد" خطاباً واضحاً في مبناه، وصادقا في معناه، وإن لم يتضمّن برامجَ مفصّلة ودقيقة

سَيًؤدي الرئيسُ المنتخب "قيس سعيد" اليمينَ الدستوري بعد غد الأربعاء (23 تشرين الأول/ أكتوبر 2019) أمام أعضاء مجلس نواب الشعب، وفقا لما قضى به الفصل السادس والسبعون من الدستور، ودون شك سيعقب أداء القسم وحفل التنصيب خطاب للرئيس يلقيه أمام مؤسسة دستورية تستمد، هي الأخرى، سيادتها من الشعب بواسطة الاقتراع، وفق ما هو وارد في الفصول من 72 إلى 88 من دستور 2014.

تتطلع فئات واسعة من الشعب التونسي إلى أن يقود الرئيس الجديد البلاد نحو التغيير وتحقيق مطامح الثورة، ويأمل الشباب الذين شكلوا قاطرة "قيس سعيد" نحو الفوز الكبير والمُذهل أن يفتح لهم أفقاً لتغيير أوضاعهم، وإعادة الشعور بالأمان في نفوسهم التي أحبطتها حكومات ما بعد سقوط النظام، وعزَّ على أحزابها الوفاء لشعارات الثورة وروحها. فهل سَيقدر الرئيس الجديد على إنجاز التغيير الذي صعب على سابقيه؟ أم أن عناد الواقع، وتعقيدات معطياته، والصعوبات التي تواجه فاعليه، ستشكل عقبات حقيقية أمام رغبته الأكيدة في تجديد روح الثورة التونسية، وإعطاء معنى حقيقياً لمطالب أصحابها وتطلعاتهم؟

 

هل سَيقدر الرئيس الجديد على إنجاز التغيير الذي صعب على سابقيه؟ أم أن عناد الواقع، وتعقيدات معطياته، والصعوبات التي تواجه فاعليه، ستشكل عقبات حقيقية أمام رغبته الأكيدة في تجديد روح الثورة التونسية

تُعرف السياسة عموما بأنها "فن الممكن"، كما تقتضي الحكمة التمييز في السياسة بين "الرغبة والواقع، أو الممكن والمتاح"، ومن هنا لا يكفي التعبير عن صدق السريرة، وحسن النوايا، ونظافة اليد، والانتصار للعدالة والإنصاف، وكلها توجهات قيمية بالغة الأهمية، وتستحق التقدير والتثمين، بل لا بد للسير قدما نحو إنجاز التغيير الذي تأمله الكتلة الناخبة، ولا سيما فئات الشباب، من توفر مصفوفة من المتطلبات القادرة على خلق بيئة الفوز، وتعزيز مكتسباته وتوطيدها في النسيج المجتمعي التونسي.

فمن هذه المتطلبات الجاذبة للفوز في إنجاز التغيير، تحويل المُكنات الدستورية التي يتمتع بها الرئيس إلى مبادرات سياسية عملية، تمكّنه من توسيع دائرة الثقة والتأييد لمشروعه في التغيير والتواصل الإيجابي مع روح الثورة. فـ"قيس سعيد" مطالب باستثمار الصلاحيات التي منحها إياه الدستور من أجل إقناع شركائه، أي البرلمان والحكومة، بالالتفاف حول رؤيته للتغيير؛ لأنه في غياب غطاء سياسي وحزبي يحتاج الرئيس إلى رداء برلماني وحكومي لتحويل الأفكار والتصورات إلى قوانين وسياسات وبرامج، وهذا يتم حتماً وبالضرورة عبر البرلمان ومؤسسة الحكومة. ثم إن بناء الثقة وتوسيع دائرة التأييد مع شركائه، والبحث عن المشترك معهم، هي مجتمعة أمور مفتاحية لبناء الأغلبية البرلمانية المقبلة، وتاليا تشكيل الحكومة، المنسجمة والقوية سياسيا.

 

من المتطلبات التي تنتظر الرئيس الجديد وتتحكم في قدرته على النجاح في إنجاز التغيير؛ مهارته في صياغة خطاب يعكس رؤية متوازنة وواقعية، وملمة بموازين القوى داخل تونس وفي محيطها الإقليمي والدولي

وإذا سلمنا أن الرئيس الجديد لتونس ستمكّنه قدراتُه الذاتية في التواصل مع عموم تنظيمات الطيف السياسي، أو على الأقل مع أقرب الكتل إلى تفكيره وتطلعاته، فإن الواقع التونسي الاقتصادي والاجتماعي، والبيئة السياسية الإقليمية والدولية، ينطويان على أكثر من تعقيد، ويحملان أكثر من صعوبة. فحالة الاقتصاد التونسي لا تدعو إلى الاطمئنان، كما أن الفجوات الاجتماعية أصبحت أكثر من مقلقة، وكل المؤشرات تدل على وجود تحديات حقيقية لا تكفي التمنيات، ولا حسن النوايا، ولا الوعود بالتغيير، وإن كانت صادقة، بتبديدها والتغلب عليها.. يحتاج الرئيس المنتخب إلى التفاف الجميع حول رؤيته للتغيير، كما يحتاج إلى دعم إقليمي ودولي صادق من أجل إسناده ودعمه، عسى أن يتمكن من إنجاز التغيير الذي وعد به.

لذلك، ستواجه تونس اختبار تشكيل الحكومة مباشرة بعد تنصيب الرئيس الجديد وأداء اليمين الدستوري، وستعبر النخبة التونسية، برلماناً ورئيسا، عن مدى قدرتها على البحث عن المشترك، وبناء التوافقات والائتلافات الناجعة والفعالة لتخطي واقع التشظي الذي ألمّ بها، وأضعف جسمها، كما ستبين لاحقا مدى كفاءتها في إعادة زرع الثقة في نفوس غالبية المواطنين الذين أرهقهم ضيق العيش، وأغلقت الآفاق أمامهم، وفقدوا بالتدريج الثقة في السياسة باعتبارها فعلا وسلوكا بشريا عاقلا. ثم إن من المتطلبات التي تنتظر الرئيس الجديد وتتحكم في قدرته على النجاح في إنجاز التغيير؛ مهارته في صياغة خطاب يعكس رؤية متوازنة وواقعية، وملمة بموازين القوى داخل تونس وفي محيطها الإقليمي والدولي؛ لأنه ليس بالكلمات والمفردات المدغدغة لمشاعر الناس ووجدانهم نصنع التغيير، ونرسي مؤسساته، ونوطّن ثقافته.