قضايا وآراء

مدعو الفهم يتسلقون الحراك المصري

1300x600
ضبابية المشهد وشح المعلومة يكتنفان المشهد في الحراك الشعبي في مصر.. هذا هو العنوان الرئيسي لوصف المشهد المصري منذ يوم الجمعة الماضي؛ الذي انطلقت فيه التظاهرات في محافظات عدة، بعد دعوة المقاول والممثل محمد علي، الذي كشف بعضا من فساد السيسي ونظامه. فالرجل أقر بنفسه أنه يعمل مع الجيش منذ 15 عاما بعقود مقاولات تتم بالإسناد المباشر، وهو ما يؤكد تعمد الجيش خرق قوانين الدولة التي تلزم الجهات على طرح مشاريعها بمناقصات شفافة، تجنبا للفساد المتمثل في العمولات والرشاوى التي تصاحب مثل هذه المعاملات، وهو ما يعني بالنتيجة ودون أن يشعر "الشاهد من أهلها" أن الكل متورط والكل فاسد، وهذا ما فهمه الشعب، والذي لم يكن ليعنيه محمد علي.

الرجل أراد في بادئ الأمر أن ينتقم لنفسه بعد أن تمت سرقته في مشروعات عدة في الفترة الأخيرة، على حد زعمه، وتهديده لاحقا بتلفيق قضايا له بعد أن أخرجوه خاسرا ومدينا بعشرات الملايين الجنيهات، لنهب مستحقاته من جهة، وإسكاته للأبد من جهة أخرى، وهو ما تلقفته أذرع داخل جهات معينة وتعاملت معه لتصفية الحسابات مع أذرع السيسي.

ولا يخفى على أي متابع أن تلك الأذرع تتصارع منذ سنوات، وبدأ ذلك بعد أن قرر مبارك أن يوكل ملف تظاهرات كانون الثاني/ يناير 2011 إلى المخابرات الحربية التي كان يترأسها السيسي، متجاوزا المخابرات العامة، وهي صاحبة الولاية، بعد أن نحى أمن الدولة. وحسنا فعل مبارك، فتلك التظاهرات تحولت إلى ثورة استطاعت أن تخلعه، إلا أن أذرعا داخل الجيش استفادت منها فيما بعد.

إن عدم وجود قيادة للحراك المصري الآن وشح المعلومات والتيقن من صراع الأذرع يفرز بالنتيجة قيادات افتراضية؛ تدعي الفهم والعلم ببواطن الأمور. ولمزيد من إضفاء الأهمية والألمعية، يجب أن يغلف خروجهم الفيسبوكي بمصطلح "معلومات خاصة"، ليظهر الرجل أهميته وخطورة ما يقول، ومن ثم يتناقل المتحمسون هذه المقاطع لينال ما يريد من شهرة ودور في المستقبل. فهناك من ادعى هروب السيسي، وهناك من ادعى اختفاء طائرته، وثالث زعم أنه غيّر وجهته من أمريكا إلى الإمارات، وهذا يدعي أن الفرقة الرابعة تحركت، وأن شرفاء الجيش أفاقوا وثاروا لشرفهم بعد أن جعلهم السيسي أضحوكة الجيوش في سيناء، وذاك يضع أسماء لقيادات تضامنت ولها مطامع في الحكم وتحتاج إلى غطاء شعبي، وآخر يضع الخطط بناء على معلومات عن خطط من داخل أجهزة الدولة السيادية، وعليها ينصح الثوار ويضع لهم خططا لتحركاتهم.. كل هذا على صفحات منصات التواصل الاجتماعي!

لقد أطلق أحدهم بعد الانقلاب بأشهر؛ إشاعة كان مصدرها قيادي كبير في رئاسة الجمهورية، أن السيسي قد قتل بعد صراع مع قيادات الجيش انتهى بأن أطلق أحدهم النار عليه فأرداه قتيلا، وآخر خرج على قناة من المفترض أنها رصينة ليبشرنا بأن السيسي قتل في تفجير استهدف موكبه وأن شبيهه، والذي بالمصادفة يعمل راقصا في الملاهي الليلية في شرم الشيخ، هو من يحكم الآن بأمر المخابرات حتى يجدوا مخرجا للأزمة وتسليم السلطة لمن يحمي مصالح الممسكين بالسلطة ويكون لهم طوعا!

الأزمة الحقيقية يا سادة في عدم وجود مؤسساتية في العمل العام في مصر، ومن ثم فإن الحراك الشعبي غالبا ما يضل طريقه لعدم وجود قيادة مؤسساتية تقود المشهد. لقد تعجبت من أحدهم، وهو أستاذ كبير في العلوم السياسية، وأنا أناقشه في إشكالية انعدام القيادة، فوجدته يقول: "كده أحسن". هل بالفعل أن يكون الحراك بلا قيادة أمر محمود؟ وهل تجربة يناير التي لم تعرف لها أب نجحت في النهاية وفي الأثناء؟

لقد نجح تجمع المهنيين أن يقود المشهد في السودان حتى تم تسليم الدفة إلى قوى إعلان الحرية والتغيير، الذي توصل إلى اتفاق مع المجلس العسكري، بعد أن استطاع قيادة الشارع والضغط على العسكر. وبغض النظر عما توصلوا إليه ونجاعته، إلا أن وجود القيادة أجبر العالم كله على احترام الحراك ودعمه، ومحاولة الالتفاف عليه في بعض الأحيان. وما زالت التجربة قيد التقييم، لكن أكرر، أن وجود القيادة تجعل للحراك معنى ويُخرج جملة مفيدة من المطالب ترسم بالنتيجة خريطة طريق للبلد وتمنع عنه احتمالات الفوضى.