كتاب عربي 21

"رؤساء" تحت الدرس

1300x600

تعني المناظرة في اللغة العربية "الجدال والنقاش والحوار العلمي وتبادل وجهات النظر يقوم فيه فريقان خصمان بالدفاع عن قضية أو مهاجمتها". هذا التعريف منقول عن معجم المعاني الجامع، أوردناه للوقوف عند الحدث الإعلامي والسياسي الذي تم في تونس ضمن سياق الحملة الانتخابية؛ التي يشارك فيها 26 مرشحا يتنافسون على الوصول الى قصر قرطاج.

تعتبر المناظرات طريقة هامة لاختبار الذين دخلوا السباق الرئاسي وهم كثيرون. وقد كان للعرب والمسلمين إسهامات في ترسيخ هذا الفن الذي اهتم به عديد الخلفاء الشغوفين بمجالات الفكر والفلسفة والعقائد الدينية. لكن هذه المناظرات توقفت فيما بعد عندما ساد التقليد وهيمنت اللذات داخل القصور، وتراجع مستوى الخلفاء، وانخفض سقف الحرية ودرجات التسامح ومساحة التعددية داخل الدولة الإسلامية.

ما يجري الحديث عنه اليوم في تونس مختلف عن المناظرات القديمة، حيث لم يكن مسموحا في التجربة السياسية العربية تنظيم حوارات ذات طابع سياسي؛ لأن ذلك من شأنه أن يشرع للفتنة حسب اعتقاد القدامى. فالسياسة مجال كان محرما لا يتم اقتحامه والتفكير فيه؛ إلا في لحظات التمرد الجماعي واللجوء الى السيوف. وقد استمرت الغلبة لصاحب الشوكة حتى اللحظة الراهنة في معظم الدول العربية؛ باستثناء عدد قليل منها تتمتع نخبها بسقوف متفاوتة في مجال حرية التعبير والرأي.

 

ما يجري الحديث عنه اليوم في تونس مختلف عن المناظرات القديمة، حيث لم يكن مسموحا في التجربة السياسية العربية تنظيم حوارات ذات طابع سياسي؛ لأن ذلك من شأنه أن يشرع للفتنة حسب اعتقاد القدامى

لم يعد منصب الرئيس في تونس حكرا على فئة دون أخرى، فالسلطة أصبحت ملكا مشاعا، والوصول إليها لم يعد شاقا يتطلب شجاعة ونضالا طويلا ومكلفا كما كان من قبل. يكفي أن تتوفر في الراغبين جملة من الشروط للانخرط في السباق، وبعدها يحال القرار لمصدر الشرعية الذي يتمثل في الناخبين.

بدأ الاهتمام في تونس بصناعة "الرؤساء"، وهي صناعة لها أصولها ومؤسساتها ودواليبها وأدبياتها في الدول الغربية العريقة في الديمقراطية، وذلك خلافا للعالم العربي الذي لا تزال له خبرة في تثبيت قواعد الاستبداد وطبائع المستبدين.

في البداية تمت الاستعانة بشركات أجنبية أمريكية وفرنسية، أما اليوم هناك خبرة تونسية أخذت تتراكم تدريجيا. وما يلاحظ في هذا السياق أن السياسيين الجدد وحتى القدماء تطغى عليهم العفوية والارتجال، لكن العديد منهم وجد نفسه مكشوفا منذ بداية المناظرات، وتبين أن بضاعته قليلة وأحيانا رديئة، وشعر بالحاجة الملحة والعاجلة لإعادة تدوير نفسه، وأدرك أنه في حاجة لتأهيل نفسه وتدارك النقائص التي يعاني منها.

لم يعد بالإمكان القبول برئيس أمي أو عاجز عن الكلام، ولا يقدر على جلب الاحترام. كما بدأ الشارع التونسي يدرك الفروق بين المرشحين، ولا يغتر كثيرا بكثرة الكلام غير المصحوب بالالتزام الفعلي على أرض الواقع.

كما تراجعت الشحنات الأيديولوجية التي تضخمت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، أيضا خلال الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014.

 

الشارع التونسي يدرك الفروق بين المرشحين، ولا يغتر كثيرا بكثرة الكلام غير المصحوب بالالتزام الفعلي على أرض الواقع

هناك من يحاول أن يدفع بالأجواء نحو العودة إلى مسألة الهوية، والدعوة إلى المطالبة بمراجعة الفصل الأول من الدستور الخاص بمقومات الدولة التونسية لإضافة التنصيص على أن يكون الإسلام هو المصدر الرئيسي للتشريع، مع التأكيد على منع إصدار أي قانون يتعارض مع الشريعة. لكن هذه الدعوة التي طالما انشغل بها الإسلاميون في دول كثيرة، والتي يحاول المرشح القادم من لندن الهاشمي الحامدي تمريرها وإثارة جدل حولها، لم تجد تفاعلا في أوساط الرأي العام، ولم يتحمس للرد عليها بقية المرشحين، بمن فيهم الذين ينحدرون من أوساط الحركة الإسلامية.

لقد تجاوز التونسيون معارك الهوية والخوض في المعتقدات والعبادات. الشاغل الرئيسي للتونسيين هذه المرة هو وضعهم الاقتصادي المنهار، فهم لا يبحثون عن فقيه يرشدهم، ولا واعظ يصحح لهم سلوكهم أو يتدخل في قناعاتهم، بقدر ما هم مشغولون بارتفاع الأسعار وتراجع مقدرتهم الشرائية، وانهيار قيمة الدينار أمام العملات الأجنبية. كما أنهم يبحثون عن رئيس يكون صادقا وأمينا، لا يسرق، ولا يفكر في نفسه وعائلته والشلة التي حوله والحزب الذي يدعمه. ولا يكذب في وعوده، ولا يتاجر بحقوق الفقراء وثوابت الوطن.

 

التجربة كانت ناجحة نسبيا ومفيدة للجمهور، فقد كشفت الكثير من الثغرات، وبرزت للعيان عناصر القوة لدى البعض الآخر. وأصبح بالإمكان نتيجة ذلك أن يختار كل ناخب من يراه كفؤا لكي يكون الرئيس

للمناظرات ضوابط، ومن بينها احترام الوقت المسموح به لكل مرشح. وقد اكتشف التونسيون بهذه المناسبة أن بعض السياسيين الذين أرهقوهم طيلة السنوات الماضية بكثرة الكلام والتشنج في المناقشات ورفع الأصوات واستعمال الأيدي أحيانا؛ وجدوهم هذه المرة قادرين على التحدث بهدوء، ولاحظوا انضباطهم بقواعد اللعبة، واكتشفوا فيهم التفكير بدون ثرثرة، وقدرة على بلورة رسائلهم في وقت وجيز لا يتجاوز الدقيقة ونصف.

رغم أن المناظرة تقوم على تبادل الآراء والردود، وهو الأمر الأساسي والجوهري الذي غاب في هذه المناسبة نظرا لكثرة المرشحين، إلا أن التجربة كانت ناجحة نسبيا ومفيدة للجمهور، فقد كشفت الكثير من الثغرات، وبرزت للعيان عناصر القوة لدى البعض الآخر. وأصبح بالإمكان نتيجة ذلك أن يختار كل ناخب من يراه كفؤا لكي يكون الرئيس. وهنا تكمن مسؤولية الجميع، لكن هل ما حصل كافيا لإقناع الجميع بضرورة التوجه يوم الاقتراع للتصويت والاحتكام إلى الصناديق؟ سؤول تصعب الإجابة عنه.