قضايا وآراء

ما هي حظوظ المعارضة التونسية في الوصول إلى قصر قرطاج؟

1300x600

التصدير: إذا لم تحترق أنت، وإذا لم أحترق أنا... فمن سيضيء لنا الطريق؟
الشاعر التركي ناظم حكمت

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، يبدو من الصعب على المهتمين بالشأن التونسي أن يفترضوا وصول أحد مرشحي المعارضة إلى الدور الثاني من الانتخابات، ومن باب أولى يبدو من شبه المستحيل ـ بالمعطيات الحالية ـ أن يصل أي مرشح من المعارضة إلى قصر قرطاج. فرغم تعدد مرشحي منظومة الحكم، من المؤكد أن "غرفة العمليات" ستتمكن من لجم بعض المتمردين (بالإغراء أو التهديد)، ولن يبقى أمام القاعدة الانتخابية لمنظومة الحكم التقليدية، إلا الاختيار بين مرشَّحَين أو ثلاثة على أقصى تقدير، وهو ما يضمن وصول "المختار" إلى الدور الثاني بطريقة ديمقراطية لا شِيَة فيها. 

 

أثبتت الأحداث أن هذه المعارضة ليست إلا خزانا بشريا وحليفا موضوعيا وطابورا خامسا للنواة الصلبة لمنظومة الحكم

 

قبل الحديث عن حظوظ المعارضة التونسية في الوصول إلى قصر قرطاج، قد يكون من المفيد أن نتعرّف على هذه المعارضة التي لا يمكن التعامل معها بوصفها كتلة صمّاء، أو هوية موحّدة من جهة المشروع السياسي أو من جهة علاقتها بالواقع التونسي بعد "الانكسار البنيوي"، الذي عرفه الحقل السياسي بعد ثورة 17/14 المجيدة. ونحن نذهب إلى وجود شكلين من أشكال من المعارضة في تونس:
 
1 ـ المعارضة الوظيفية: 

وهي تنتمي أساسا إلى اليسار الثقافي (أو الاستئصالي)، ويمكن تعريفها انطلاقا من مركزية منطق التناقض الرئيسي مع "الرجعية الدينية"، أي حركة "النهضة" أساسا، والتناقض الثانوي مع "الرجعية البرجوازية"، أي ورثة التجمع الدستوري المنحل أساسا، وهو منطق كانت له تأثيرات كبيرة على مواقف اليسار الجبهوي من الترويكا ومن ورثة منظومة الحكم الدستورية ـ التجمعية. وقد أثبتت الأحداث أن هذه المعارضة ليست إلا خزانا بشريا وحليفا موضوعيا وطابورا خامسا للنواة الصلبة لمنظومة الحكم (النواة الجهوية المعروفة). 

ويبدو من خلال التصريحات الإعلامية لمرشحي هذه المعارضة (حمّة الهمامي، منجي الرحوي، بسمة الخلفاوي، عبيد البريكي) أنهم سيواصلون اعتماد الجملة السياسية ذاتها، تلك الجملة التي لا تخدم في نهاية التحليل إلا المهيمنين على دواليب الدولة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا: استهداف حركة "النهضة" وتغذية صراعات الهوية، واعتماد خطاب "ثوري" ذي مضامين اجتماعية واقتصادية ثورية، ولكنها ثورية صورية هدفها التحشيد الانتخابي دون أي رغبة / قدرة حقيقية على تفعيلها في مستوى الممارسة الموضعية، أو في مستوى الخيارات السياسية الاستراتيجية

2 ـ المعارضة الاجتماعية المواطنية: 

وهي تنقسم إلى معارضة "حزبية" قدمت مرشحيها للانتخابات الرئاسية ( محمد عبّو، منصف المرزوقي) ومعارضة فردية أو مستقلة يمثلها أساسا الأستاذ قيس سعيّد. 

ورغم اشتراك هذه المعارضة مع المعارضة الوظيفية في الخطاب الاجتماعي وفي النقد الجذري لخيارات منظومة الحكم، فإنها تختلف عنها انطلاقا من المعطيات التالية: أولا ما أظهره رموز هذه المعارضة من استعداد للتعامل مع الإسلاميين بوصفهم شركاء في الحكم ومواطنين كاملي الحقوق الفردية والسياسية، على خلاف موقف اليسار الجبهوي الرافض لأي تعامل مع حركة "النهضة" مثلا، غياب الخطاب الاستئصالي ضد حركة "النهضة" والإسلام السياسي في تونس أو خارجها، والتحرك للدفاع عن الديمقراطية والحريات من منطلق مبدئي لا انفصام أو أدلجة فيه، وأخذ المسافة نفسها من "جناحي" منظومة الحكم، انطلاقا من الأداء السياسي وليس انطلاقا من موقف أيديولوجي غير وظيفي من منظور الجمهورية الثانية، على عكس اليسار الجبهوي الذي التقى موضوعيا مع الجناح "التجمعي" في منظومة الحكم أكثر من مرة (التحالف مع نداء تونس خلال حكم الترويكا، اعتماد "الانتخاب المفيد" لفائدة المرحوم الباجي قائد السبسي في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفارطة، وخدمة منظومة الحكم في ابتزاز حركة "النهضة" واستهدافها في قضايا الاغتيال السياسي وما يسمى بـ "التنظيم السري").

 

إصرار مرشحي المعارضة الاجتماعية على العمل الفردي أو الحزبي هو خدمة مجانية يقدمونها لمنظومة الحكم


ولا شك في أن مصطلح المعارضة لمنظومة الحكم لا يجد مصداقيته إلا في المعارضة الاجتماعية المواطنية، لأن المعارضة الجبهوية ليست إلا هامشا من هوامش النظام بحكم ارتدادها عن منطق الصراع الطبقي، وتركيزها على الصراعات الثقافوية البائسة، تلك القضايا التي تحرف الوعي الجمعي عن رهاناته الحقيقية المتمثلة في تكسير البنية الجهوية ـ الزبونية للسلطة وتركيز دولة القانون والمؤسسات الممهدة لبناء مقومات السيادة الحقيقية. 

ورغم أن المعارضة الاجتماعية المواطنية تمثل نظريا "الطريق الثالث" والبديل عن جناحي السلطة وعن اليسار الثقافي في الآن نفسه، فإنها لم تنج من أمراض دولة الاستبداد، خاصة الزعاماتية. وقد ساهم هذا المرض السلطوي في تشتيت هذه المعارضة ومنعها من تقديم قوائم مشتركة في الانتخابات التشريعية، ويبدو أنه سيكون "كعب أشيل" أو سبب مقتلها في الانتخابات الرئاسية. 

فرغم علم المعارضة الاجتماعية المواطنية (بأحزابها وشخصياتها الاعتبارية المستقلة) باستحالة انتصارها في وضعية التشرذم وتعدد الترشحات للانتخابات الرئاسية، ورغم علمها بأن منظومة الحكم ستتوحد لا محالة لضمان وصول "مختارها" لقصر قرطاج، فإنها مازلت مصرة على تقليص حظوظها وتقوية حظوظ المنظومة لإعادة إنتاج البنية السلطوية ذاتها. وإلى حد هذه اللحظة، لا يبدو أن هناك نية لتوحيد قوى المعارضة الاجتماعية المواطنية بالاصطفاف وراء مرشح توافقي، وهو واقع كارثي لا يمكن تفسيره إلا بغلبة الزعاماتية وباستخفاف المرشحين جميعا، بتداعيات تفرقهم على مسار الانتقال الديمقراطي برمته. 

وإذا ما أردنا تسمية الأشياء بأسمائها، فإننا سنقول إن إصرار مرشحي المعارضة الاجتماعية على العمل الفردي أو الحزبي هو خدمة مجانية يقدمونها لمنظومة الحكم، وهو أيضا رسالة سيئة يبعثون بها إلى الناخب التونسي، وقد تكون لها تأثيرات غير مستحبّة على نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية.

ختاما، فإن على مرشحي المعارضة الاجتماعية المواطنية ـ إذا ما أرادوا أن يكونوا في مستوى مسؤولياتهم السياسية أو يطمعوا بصورة في منصب الرئاسة ـ أن يجدوا آلية تمنع تشتت قاعدتهم الانتخابية التي تكاد تكون واحدة، وهو أمر مازال ممكنا رغم صعوبته، إذ يكفي هؤلاء أن يقبلوا الاحتكام إلى سبر آراء تشرف عليه مؤسسة تونسية أو أجنبية ذات مصداقية، وهو سبر آراء سيحدد حظوظ كل مرشح منهم، بعيدا عن الادعاءات الذاتية والمزايدات الخطابية. ثم سيكون عليهم الاصطفاف وراء الشخصية الأوفر حظا، مع تعهد تلك الشخصية بتشريك باقي المرشحين في الحكم. فإذا كان منصب الرئيس واحدا، فإن المؤسسات التابعة للرئاسة كثيرة، وهي تحتاج إلى دماء جديدة تكون حاملة لمشروع إصلاحي حقيقي. 

كما أن مرشح هذه المعارضة لن يجد أفضل من حلفائه في الحملة الرئاسية لتشكيل حزام سياسي يُقوّي مؤسسة الرئاسة، ويضمن اضطلاعها بمهامها الدستورية مهما كانت نتائج الانتخابات التشريعية. 

ولا شك عندي في أن رفض المعارضة الاجتماعية لهذا المقترح سيجعل منها حليفا موضوعيا لمنظومة الحكم، وستكون مسؤولة سياسيا وأخلاقيا عن كل ما سينجر عن إعادة إنتاج النظام الحالي لنفسه بعد الانتخابات المقبلة.. و"على نفسها جنت براقش".