كتاب عربي 21

الذباب (1)

1300x600

(1)
لا أعرف الدكتور أمير بسام القيادي في جماعة الإخوان المسلمين..

لكنني أعرف جيداً مرارة الشعور بالخذلان.

(2)
لا أعرف الدكتور محمود حسين أمين عام الجماعة..

لكنني أعرف مسؤولية الإمارة، وأعرف أنها أمانة، أفلح من  أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها، وخاب من ضعفت نفسه لمغانمها فصارت عليه خزيٌ وندامة.

(3)
لا أعرف اللاعب رياض محرز وغزواته السياسية، ولا رئيس الوزراء مصطفى مدبولي وما جرى له من أزمات نفسية بعد تجاهل مصافحته في ختام بطولة كروية!

لا أعرف وزيرة قطع الرقاب نبيلة مكرم عبد الشهيد، ولا الضابط الذي يغذي محمد الباز، ولا زميله الذي يروي خالد صلاح!

لا أعرف هزيمة جمال عبد الناصر في 54، ولا نبوءات عزت أبو عوف السياسية، ولا المصير الأخروي لفاروق الفيشاوي، ولا موقف قائد السبسي من الدين، ولا أسماء من يدخلون الجنة وأسماء من يدخلون النار!

لا أعرف مرتضى منصور ومن ينصره، ولا عمرو أديب ومن يعمره، ولا ريهام سعيد وحقيقة مرضها العجيب!

لا أعرف يسرا ووالدتها، ولا سر حماس نقابة الصحفيين في حماية المهنة داخل سرادقات العزاء، مع استمرار صمتها عن الحجب والندب وما يحدث من تجاوزات في المحاكم وانتهاكات لحقوق الناس كلها (وليس الصحفيين فقط) في الشوارع وفي السجون!

لا أعرف أين أسامة عسكر، ولا الفريق شفيق، ولا مكان قائد الأسطول السادس الذي أسرناه!

لا أعرف كيف تنتهي "الحرب في سيناء"، ولا هوية الأعداء، ولا فيمَ يفكر الآن الفريق سامي عنان!

لا أعرف سر إقالة رئيس الأركان، ولا علاقته بقضية هشام عشماوي، ولا اسم وزير الدفاع الحالي.. الرجل الصامت الذي شطب اسم صدقي صبحي من خانة المراهنات الانقلابية المرغوبة!

 

وسط هذا الطوفان المتدفق من الشاشات ومن شلالات السوشيال ميديا، لم أعد أعرف الفرق بين الحقائق والغبار

لا أعرف اتفاقية حماية الجزر بين مصر والسعودية، ولا عودة تيران من البواية الخلفية، ولا حقيقة البنت التي طعنت سائقا حاول اغتصابها، ولا خطة علاء مبارك الخفية، ولا مستقبل المعارضة بعد رحيل أول رئيس مدني منتخب في انتخابات نزيهة؛ أشرف عليها مجلس عسكري نلعنه في الصباح وفي المساء!

الآن وسط هذا الطوفان المتدفق من الشاشات ومن شلالات السوشيال ميديا، لم أعد أعرف الفرق بين الحقائق والغبار.

لكنني أعرف الذباب!

(1+)
الدكتور أمير بسام قيادي في مجلس شورى جماعة الإخوان التي حكمت مصر عاما كاملاً، وتسعى لاستعادة ذلك الحكم وسط عاصفة من التقلبات العنيفة.. والدكتور بحكم موقعه الحساس كان يدرك أن خروج انتقاداته للعلن؛ فيه ضرر كبير للجماعة وسمعتها، لذلك التزم بالقنوات التنظيمية، وكرر تنبيهاته وتحذيراته من احتكار القرار، ومن الفساد المالي والتقاعس التنظيمي، ومن خطورة تحول الجماعة إلى متحف مومياوات يقدم الانتظار على الإقدام. ويشجع على الصبر ويرجئ الثورة. وله اقوال وبيانات متواترة في ذلك الاتجاه، لكن البيروقراطية التنظيمية لم تكن ترى بعيون ولا بمشاعر الدكتور بسام، فلديها مقتضيات وضرورات ترى في التبريد حكمة، وتعتبر التسكين والأداء البطيء أسلوبا علميا لحفظ الجماعة وضمان الحياة والسير الماراثوني بنفس طويل، وذلك في مقابل تسرع الثوار الذين توهموا أن مواجهة النظام القمعي سهلة، وأن "الانقلاب يترنح"، ومن هذا التناقض في فهم الواقع وتصور المستقبل عادت ثنائية: أهل إصلاح أم أهل ثورة؟ وكان من الطبيعي أن تكون القيادة المنقودة والمهيمنة في اليمين المحافظ الذي يستعيد نهج الإصلاح، ويعلي من هدف الحفاظ على الجماعة في مرحلة لا يصلح فيها المد.

 

البيروقراطية التنظيمية لم تكن ترى بعيون ولا بمشاعر الدكتور بسام، فلديها مقتضيات وضرورات ترى في التبريد حكمة، وتعتبر التسكين والأداء البطيء أسلوبا علميا لحفظ الجماعة وضمان الحياة والسير الماراثوني بنفس طويل

(2+)
الدكتور بسام مخلص في انتقاداته، وهو يعلنها حباً في الجماعة وليس خروجاً عليها، لكنه يرى أن الخطأ في أفراد (ذكرهم بالاسم) وليس في نهج التنظيم وأدواته وسياساته. وفي المقابل، فإن الدكتور حسين، يتعامل مع هذه الوقائع، ومع هؤلاء الأفراد المنتقدين باعتبارهم "قلة خارجة"، ويؤكد أنهم لا يزيدون عن 1 في المئة، سواء في القاعدة أو قمة الهرم القيادي.

وهذا الخلاف (في تقديري) ليس جريمة جنائية، وليس من الرصانة أن نتعامل معه كاتهام بالسرقة، كما سعى إعلام السيسي (والإعلام المجتمعي) لتصوير ذلك وتضخيمه، ضمن أساليب الكيد وتشويه الجماعة وكل الجماعات السياسية.

وهذه الغوغائية في التغطية الإعلامية المكثفة مقصودة؛ لتنميط الجماعة باعتبارها عصابة من الخونة تتناحر على مكافآت التمويل والعمالة من مخابرات الدول الأجنبية. وهذه البلبلة لا تسمح بأي فرصة لفهم القضية في صورتها السياسية، وبالتالي يصعب علاج الأمراض التنظيمية التي كتب عنها ماو تسي تونج. ويتم تكريس وجهات النظر المختلفة في انشقاقات تتطور مع الوقت؛ من الحالة الفردية إلى "حساسية أجيال" أو "صراع أجنحة" أو "احتراب وتآكل تنظيمي"، وهو ما تسعى إليه أجهزة السلطة التي توجه إعلامها لاستخدام مصل هذه التسريبات أو الانتقادات داخل أحزاب المعارضة وتياراتها.

 

يتم تكريس وجهات النظر المختلفة في انشقاقات تتطور مع الوقت؛ من الحالة الفردية إلى "حساسية أجيال" أو "صراع أجنحة" أو "احتراب وتآكل تنظيمي"، وهو ما تسعى إليه أجهزة السلطة

لكن المشكلة تظل لدى المعارضة في مدى قدرتها على الاستجابة لاختلاف الحساسيات والأمزجة، وإيقاعات العمل ووجهات النظر. وليس هناك أفضل من الشفافية والحوار الداخلي المنفتح لاستيعاب هذه الاختلافات الطبيعية، وإعلان استراتيجية جديدة للمرحلة، خاصة وأن أي تنظيم سياسي قد يسمح لقياداته أو لأفراد على الهامش  بملكية اسمية لبعض موارد التنظيم وعقاراته، حسب الظروف القانونية لكل دولة، خاصة وأن التنظيم ليس له صفة قانونية تتيح له تسجيل الممتلكات باسمه الاعتباري. وهذا الكلام ليس تبريراً ولا تقليلا من انتقادات الدكتور بسام، لكنني أهتم بحديثه عن استراتيجية الجماعة ورؤيته لأداء الإدارة، ولا أحصر الخلاف في أمور مالية يمكن الرد عليها أو تسويتها أمام أي محاسب صغير.

(3+)
قبل عامين تقريبا كتبت محذراً نفسي من التحول إلى ظاهرة غوغائية، وقلت على الملأ إن لدي فرصة عظيمة ومغوية لذلك. والحقيقة أن الغوغائية مسلية جداً، ومسكنة لآلام الهزائم، ومثمرة في الحضور، ومسهّلة للشهرة، ومريحة في العلاقات، ومربحة للمال. وبطريقة المصريين، يمكن صياغة "هيستيريا الهبد" التي نعيشها في هذا التعبير الساخر: "خليك غوغائي تعيش مرتاح". فأنا أعرف إعلاميا من المعارضة "يهبد" كل يوم ما يثبت كذبه في اليوم التالي، ولا يخجل ولا يعتذر، بل بالعكس، يواصل الهبد بشجاعة أكبر، ويتعسف في تفسيراته وخلفياته بطريقة لم تخطر على بال أمبرتو ايكو وهو يكتب عن الإفراط في التأويل و"التقويل". ولأن الناس "على دين تلفزيوناتها"، فقد اعتنق الشعب مِلَلْ وعِلَلْ ونِحَلْ عمرو أديب وأحمد موسى وخالد صلاح والباز والدندراوي، وما لا أحب أن أذكر أسماءهم من الغوغائيين السعداء في إعلام المعارضة.

(؟)
يبقى السؤال الذي أنتظره من القارئ اللبيب:

أين الذباب الذي جاء في عنوان المقال؟

- لا أعرف، لكني أعدكم بالكتابة عنه في المقال المقبل.

tamahi@hotmail.com