كتاب عربي 21

مراكز القوى في السودان بين الوفاق والشقاق

1300x600

شهد يوم الأربعاء الماضي توقيع وثيقة سياسية بين قوى الحرية والتغيير (قحت)، التي تمثل الحراك الشعبي الذي أطاح بالرئيس السوداني عمر البشير، والمجلس العسكري الذي فرض نفسه بديلا للبشير، بعد أن ساهم في إزاحته، وكان هذا التوافق الجزئي بداية شقاق داخل "قحت"، حيث رأت بعض مكوناته أن الوثيقة قاصرة ودون طموحات الثوار، وفيها تنازلات بلا مبرر للعسكر، باعتبار أن "قحت" تتمتع بسند شعبي غير مسبوق في تاريخ السودان، بينما العسكر يراهنون فقط على القوة الغاشمة، التي يؤدي استخدامها إلى اتساع الفجوة بينهم وبين الجماهير.


حاول المجلس العسكري التنصل مرارا من كل التوافقات، التي اضطر لإبرامها مع "قحت" تحت ضغوط شعبية ، ولكنه كفّ، ولو مؤقتا عن ذلك، إثر مواكب مليونية في يومي 30 حزيران- يونيو الماضي، في ذكرى الانقلاب الذي أوصل البشير إلى الحكم عام 1989، و13 تموز- يوليو بمناسبة مرور أربعين يوما على مذبحة القيادة العامة، عندما قامت قوات نظامية بقتل وجرح المئات الذين كانوا يعتصمون أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني منذ 6 نيسان- أبريل الماضي، ثم كانت الحشود الضخمة يوم الخميس الماضي، 18 تموز- يوليو في ما كانت تُعرف بالساحة الخضراء في عهد البشير، والتي أسمتها الجماهير المحتشدة "ساحة الحرية"، لتذكير المجلس العسكري بأن "الشعب يريد قصاص الشهيد" كما جاء في هتافات مئات الآلاف من الحناجر.

 

مواثيق الجامعة العربية تنص صراحة على "استرني وانا استرك"، ولا تنص على وساطة إلا بين الحكومات


وأحدثت الوثيقة السياسية تلك شروخا أيضا في صفوف الثوار، فمنهم من يرى أن "العافية درجات"، كما يقول المثل السوداني، أي أن التعافي وتحقيق المطالب يأتي بالتدرج، ومنهم من رأى أن "قحت" تقاعست عن حسم أمر جوهري بعدم إصرارها على تضمين الوثيقة نسب التمثيل في المجلس التشريعي الانتقالي، بحيث تختار قحت 67% ممن يشغلون مقاعده، وتكون لها كلمة أيضا في اختيار شاغلي المقاعد المتبقية.


والأمر الوحيد الذي لم يحصل حوله خلاف بشأن تلك الوثيقة، هو أن على السودانيين الرهان على أفريقيا وليس العالم العربي، وفي موكب الخميس الماضي في ساحة الحرية، ارتفعت الأعلام الإثيوبية إلى جانب الأعلام السودانية عرفانا بدور إثيوبيا في جهود الوساطة التي تمت تحت مظلة الاتحاد الأفريقي بين طرفي النزاع السياسي في السودان، وكان أكثر ما هز وجدان السودانيين، أن ممثل رئيس الوزراء الإثيوبي السفير، في بعثة الوساط -محمد درير- فشل في مغالبة دموعه وهو يخاطب الصحفيين قائلا: إن هذا البلد العريق والشعب العظيم.... ثم انتحب بصوت مسموع فدوت الأكف بالتصفيق.


زار الأمين العام للجامعة العربية السودان والأزمة السياسية فيه مستعرة، ولم يفتح الله عليه سوى بـ"السح الدح أمبو" المعتاد حول ضبط النفس وتغليب المصلحة العامة، وهي نفس المفردات المطاطية التي صدرت عن دول الجوار العربي؛ ولا كلمة واحدة في استنكار مجزرة فض الاعتصام في آخر يوم في رمضان، أو في الدعوة إلى نقل السلطة سلما إلى المدنيين، ولا تثريب عليها في ذلك، فمواثيق الجامعة العربية تنص صراحة على "استرني وأنا أسترك"، ولا تنص على وساطة إلا بين الحكومات.


وبالمقابل، فقد بادر الاتحاد الأفريقي وفور ركوب العسكر لقارب الثورة في السودان وتشكيل مجلس رئاسي لحكم البلاد، باعتبار الأمر انقلابا عسكريا، واعطوا المجلس مهلة شهر لتسليم الحكم للمدنيين، واستغل الرئيس المصري رئاسة بلاده لهذه الدورة في الاتحاد الأفريقي، ومدد المهلة إلى ثلاثة أشهر، وبانقضائها جمَّد الأفارقة عضوية السودان في الاتحاد، ويدرسون الآن فرض عقوبات على حكومته.


كان من المقرر أن يلتئم يوم الجمعة 19 تموز- يوليو اجتماع "قحت" مع المجلس العسكري، للاتفاق حول الإعلان الدستوري الذي يتناول كافة تفاصيل الحكم الانتقالي، ولكن "قحت" طلبت تأجيله لثلاثة أيام، حتى يتسنى لها أن تنجز توافقا داخليا، بالسعي لترضية بعض مكوِّناتها التي رفضت الاتفاق السياسي باعتباره تنازلا كبيرا عن مطالب الثوار.

 

معظم الهتافات التي ظلت ترددها الحناجر على مدى شهور الثورة السبعة، كانت شعرا ردده حداة الثورة عبر السنين


ولا شيء يدعو للتفاؤل بأن جولة المفاوضات التي يفترض أن تكون الأخيرة بين قحت والعسكر ستسفر عن توافق يؤدي الى تشكيل حكومة مدنية، فهناك بند منح الحصانة ضد المساءلة القانونية لأعضاء مجلس السيادة (وخمسة منهم من أعضاء مجلس العسكر الحالي)، وقوى الثورة ترى أن دم شهداء مجزرة رمضان في أعناق هؤلاء العسكر، سواء بضلوعهم المباشر في المجزرة، أو بالتواطؤ فيها أو بالتستر على الجناة، وهناك الخلاف حول صلاحيات مجلس السيادة: هل فيها شق تنفيذي-تشريعي؟ ومن يختار حكام الولايات؟


وفي تقديري، فإن العسكر يحسون أنهم في ورطة لم يحسبوا حسابها وهم يتصدرون المشهد السياسي في السودان، ثم وهم يناطحون القوى الثورية، ثم وهم مسؤولون عن أنهار الدماء التي تدفقت خلال الأسابيع الماضية، ومن ثَمَّ فليس من المتوقع أن يكون تسليمهم مقاليد الأمور لسلطة مدنية تتولى فتح ملفات يريد العسكر أن تبقى مغلقة، سلسا بأي قدر.


ما يؤكد أن الثورة كانت تغلي في أجواف الشباب السوداني على مدى ثلاثة عقود، هو أن معظم الهتافات التي ظلت ترددها الحناجر على مدى شهور الثورة السبعة، كانت شعرا ردده حداة الثورة عبر السنين، فنالوا الاعتقال والتشريد والتعذيب، ولكن كلماتهم ظلت تختمر في القلوب، إلى أن حان وقت خروجها لتؤتي قطافها، ولم يكن من ثم مستغربا أن يردد المتشائمون من مآلات الأمور في السودان، عبر المنابر والمنتديات شعر أمل دنقل:


لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كلّ قيصر يموت، قيصر جديد/ وخلف كلّ ثائر يموت، أحزان بلا جدوى/ 
و دمعة سدىً.