أفكَار

"علماء المسلمين" الجزائرية.. مواقف باهتة في زمن التحولات

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. تراجع لافت لدورها في صياغة واقع ومستقبل البلاد (الأناضول)

لا يكاد الجدل حول مواقف ودور جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، التي مضى على تأسيسها 88 سنة (تأسست في 5 أيار/مايو 1931)، يتراجع حتى يحتدم من جديد، خاصة في الفترات التاريخية الحساسة كالتي تعيشها الجزائر اليوم مع حراكها الشعبي، ذلك أن جمعية العلماء بتاريخها الدعوي والعلمي والنضالي الضخم، ورمزية شيوخها وعلمائها، وعلى رأسهم قائد النهضة الجزائرية الحديثة الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، ظلت دائما محور التجاذبات بالنظر إلى إسهاماتها الكبرى في استعادة الوعي والهوية العربية الإسلامية للجزائر، التي أريد لها أن تكون فرنسية طوال قرن وربع القرن من الاحتلال.

 

سطرت الجمعية منذ إنشائها أهدافا واضحة في مقدمتها تثبيت هوية الشعب العربية الإسلامية وفق شعارها المعروف "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"


وللأسف أنه حتى بعد حصول الجزائريين على استقلالهم الوطني، الذي ساهمت فيه جمعية العلماء مساهمة فعالة يشهد بها كل المؤرخين المنصفين، تمت محاصرة الجمعية بطريقة أشد وأشرس مما حاصرها به المستعمر الفرنسي، حتى تباين بوضوح دورها الفعال خلال الفترة الاستعمارية (1931/1954)، إذا ما استثنينا فترة الثورة والكفاح المسلح التي انخرطت فيها بقوة (1954/1962) مع دورها وتأثيرها الخافت خلال كامل فترة الاستقلال إلى اليوم (57 سنة)، إلا أن تراجع دورها في السنوات الأخيرة، بات ملحوظا أكثر، وتطرح حوله أسئلة كثيرة، تستلزم من كل الخيرين في الجزائر أن يقدموا مراجعات حقيقية لهذه الوضعية غير المريحة، والمتناقضة مع عظمة المشروع الباديسي الذي حملته، والذي رغم تراجع أداء القائمين عليه، إلا أنه مع ذلك، يلقى قبولا شعبيا كاسحا، ترجمته شعارات الهبة الشعبية الراهنة في الجزائر، وهي ترفع صور الشيخ ابن باديس، وتردد أشعاره الخالدة، بل وتعلن صراحة أنها تحمل مشروعه النهضوي لإخراج الجزائر من أزماتها وتخلفها.

ميراث عظيم

لا يمكن حصر ميراث جمعية العلماء المسلمين مطلقا، لأن تأثيرها على مجمل الحركة الوطنية خلال مرحلة الاستعمار، وعلى اندلاع الثورة التحريرية، وحتى على صناعة النخب الإسلامية والوطنية بعد الاستقلال، هائل جدا، ويكفي أن الجمعية منذ نشأتها خلال عقد المؤتمر الإسلامي طالبت علانية بالاعتراف باللغة العربية لغة رسمية للبلاد، وإعادة مجمل النشاط الديني إلى أشراف المسلمين، وقد كانت الجمعية وقتها الناطق شبه الرسمي عن الشعب الجزائري المقهور، حتى إن المفكر مالك بن نبي عارض أن تتنازل الجمعية عن قيادة الحركة الوطنية، وأن يتنازل الشيخ بن باديس عن رئاسة الوفد الجزائري الذي توجه إلى باريس في 18 تموز (يوليو) 1936 لرئيس كتلة النواب الجزائريين بن جلول، وهو ما اعتبره تنازلا خطيرا أدى إلى تأخر انطلاق ثورة تشرين ثاني (نوفمبر)، وإلى الانحرافات والمشاكل العويصة التي حصلت بعد الاستقلال، إلا أن الجمعية وقتها كما يقول شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله، كانت تخشى العمل السياسي العلني الصريح، خشية حلها من الاستعمار، وبمن ثم فقدان العمل الدعوي الهائل الذي تقوم به لتوعية الجزائريين واستعادة هويتهم المسلوبة.

 


  
لقد سطرت الجمعية منذ إنشائها أهدافا واضحة في مقدمتها تثبيت هوية الشعب العربية الإسلامية وفق شعارها المعروف "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا"، وكان العلامة عبد الحميد بن باديس في الجزائر، علما من أعلام الأمة الكبار وقتها، من أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو، لكن وفاته المفاجئة في العام 1940، تركت فراغا رهيبا لم يتمكن حتى نائبه العلامة الكبير الشيخ البشير الإبراهيمي من ملئه، خاصة بعد أن تم إيقافه عن العمل العام بعد اندلاع الثورة التحريرية في 1954، ما دفع بكوادر الجمعية إلى الانخراط في الثورة والعمل الوطني المسلح، الذي مهدت له قوافل العلماء التي كانت تجول القرى والمداشر لزرع الوعي والروح الوطنية الإسلامية، حتى إن الكثير من كوادر الثورة المسلحة كانوا من خريجي جمعية العلماء المسلمين، وهو ما بينه الشّيخ محمّد البشير الإبراهيمي في خطاب له عندما قال: "لو تأخّر وُجود الجمعية عشرين سنة أخرى، لما وجدنا في الجزائر من يسمع صوتنا، ولو سلكنا سبيلا غير الذي سلكناه في إيقاظ الأمّة وتوجيهها في السّبيل السّوي لما قامت هذه الثّورة الجارفة في الجزائر التي بيّضت وجه العرب والمسلمين".
 
مطاردات ما بعد الاستقلال

ما تخوف منه مالك بن نبي قبل الاستقلال وقع بالفعل بعد استعادة الجزائر استقلالها، حيث وجدت القيادة التي استولت على منظومة الحكم بقوة السلاح بسبب أن توجهاتها الأيديولوجية لا تتماشى وتوجهات جمعية العلماء المسليمن، في موقف التضاد مع الجمعية، فقد كان في بداية الستينيات المد الشيوعي على أوجه، وهو الذي كان وراء انحرافات مؤتمري الصومام وطرابلس في تاريخ الثورة المسلحة الجزائرية، وبالفعل لم تمض أكثر من ثلاث سنوات على الاستقلال، حتى وقع انقلاب العقيد هواري بومدين على غريمه أحمد بن نبلة سنة 1965، ليقوم بتأثير دوائر حاقدة بحل الجمعية باعتبارها من القوى "الرجعية"، والتضييق على علمائها، إلا أن الإسهامات الفردية لرجال جمعية العلماء كانت أقوى من أن تسحقها آلة المنع تلك، فظهرت جمعية القيم الإسلامية امتدادا لنضال رجالات الجمعية الذين بادروا إلى تأسيس هذه الجمعية الجديدة، ليواصلوا إسهاماتهم في الصحف والقنوات الإذاعية والمساجد ومؤتمرات الفكر الإسلامي، محاولة ما استطاعت مواجهة موجات الفرنسة والانحلال، إلى أن اندلعت انتفاضة تشرين أول (أكتوبر) 1988، لتعود الجمعية إلى اسمها التاريخي بعد إقرار التعددية الحزبية وحرية إنشاء الجمعيات.

 

من العدل الاعتراف أن تراجع أداء جمعية العلماء المسلمين، بعد وفاة ابن باديس، وبعده الشيخ البشير الإبراهيمي، كان جله لأسباب موضوعية


غير أن عودة جمعية العلماء بداية التسعينبات من القرن الماضي، كان أيضا في ظروف صعبة واستثنائية، حيث صادف الرجوع اندلاع الحرب الأهلية في الجزائر، ونشوب أزمة أمنية خطيرة، عقب انقلاب 1992، لم تتمكن معها الجمعية وكثير من الأحزاب والجمعيات الأخرى، من أدى دور فاعل فيها، بسبب قلة الحريات ومصادرة الرأي، إلى غابة 1999 تاريخ وصول الرئيس بوتفليقة إلى سدة الحكم وإقرار قانون المصالحة الوطنية، أين تخلصت الجمعية من الظرف الخاص الذي سيطر على مجمل البلاد، لتقع للأسف ضمن دائرة مضايقات مختلفة أخرى، وهذه المرة مرتبطة بالتضييق المالي ومشكلة المقر الرئيس للجمعية، الأمر الذي أدخل الجمعية في متاهة هي أكبر منها، وتغرق إثرها في أمور صغيرة تتعلق برواتب الموظفين وإيجاد مقر لائق، والعمل على بقاء صوت الجمعية جريدة "البصائر" ومنع اندثارها بسبب أزماتها المالية، وهي كلها مشاكل مصطنعة من طرف جهات نافذة لم يكن يخدمها عودة الجمعية لسابق عهدها، أو أن تقوم بدورها الحضاري الريادي في تثبيت هوية الأمة الجزائرية العربية المسلمة، وهذه المرة للأسف ليس باسم الشيوعية والتقدمية، وإنما تقف وراءها لوبيات تابعة لفرنسا وجماعات البربريست والرافضين لأي توجه عربي إسلامي للجزائر.

وعليه يكون من العدل الاعتراف أن تراجع أداء جمعية العلماء المسلمين، بعد وفاة ابن باديس، وبعده الشيخ البشير الإبراهيمي، كان جله لأسباب موضوعية، حتى وإن كانت الأسباب الذاتية متوفرة أيضا، بعد العام 1992 في زمن قيادة الشيخ أحمد حماني، أو الشيخ علي المغربي، أو الشيخ أحمد حماني، وإلى غاية تولي الدكتور عبد الرزاق قسوم القيادة الحالية، وجب معها إعادة النظر في استراتيجية الجمعية بشكل كامل، خاصة إذا ما تمكن الحراك الحاصل اليوم في البلاد، من تحرير الجمعية من الأغلال التي قيدتها طويلا. 

واقع حزين

رغم المحاولات الحثيثة التي تقوم بها جمعية العلماء المسلمين حاليا في محاولة نشر الوعي والثقافة والتربية، إلا أن ذلك يظهر بالنظر إلى تاريخ الجمعية وعظمة الأهداف التي أنشئت من أجلها، ضئيلة جدا، صغيرة بحيث لا تكاد تُرى في الواقع الجزائري، إلا بشق الأنفس.

لقد تقلص نشاط الجمعية وتأثيرها كثيرا اليوم، ورغم الفترة الذهبية التي قاد فيها الشيخ عبد الرحمن شيبان رحمه الله الجمعية، قبل أن تؤول مؤخرا إلى الدكتور عبد الرزاق قسوم، إلا أن المحصلة تبدو هزيلة وبعيدة كل البعد عن تطلعات الشعب من هذا الصرح النهضوي الكبير، ومن يتابع نشاط الجمعية اليوم، سيكتشف سريعا أن الأمر يقتصر على إصدار صحيفة "البصائر" التي تعاني مشكلات مالية كبيرة، ونقص في التوزيع والتأثير يكاد يكون مرعبا، فصحيفة بهذا التاريخ لا تكاد تراها في المكتبات إلا نادرا، ولا يتجاوز مدى تأثيرها في أحسن الأحوال بعض الشخصيات المحبة للجمعية، بينما عموم الشعب في واد آخر، يعيش صراعه الحضاري مع الآخر المنسلخ بكل ترسانة الإعلام والمال التي يملكها، مجردا من أي غطاء عقدي.

 



وقد بينت الأحداث التي مرت بها الجزائر خاصة في العشريتين الماضيتين من حكم بوتفليقة، كم أن الاحتقار الرسمي وصل مداه إلى الحد الذي تمادت فيه وزارة التربية مثلا، التي سيطرت عليها قوى استئصالية بقيادة الوزيرة نورية بن غبريط، إلى حد إلغاء مادة التربية الإسلامية من كثير من الأطوار التعليمية، وتقليص الحجم الساعي لهذه المادة في أطوار أخرى، بل وإلى نزع البسملة من الكتب المدرسية، والمس بعقيدة الشعب ولغته العربية وتاريخه الإسلامي لصالح تاريخ آخر جاهلي مزيف، من دون أن يكون للجمعية القدرة على وقف تلك المهازل، وأقصى ما كانت الجمعية تقدر عليه أن تصدر بيانات صحفية تشجب فيه أو تستنكر الدوس على قيم الشعب ومقوماته، قبل أن يواصل قطار المسخ والدجل مساره المرسوم.

الأدهى والأمر، أن تغيب شخوص وشخصيات الجمعية أو تكاد، عن الخوض في لب الصراع الحاصل بالبلد، من خلال بلاطوهات الإعلام، بشخصيات وازنة تكون لها قوة الحجة والطرح، مزودة بميراث ثقيل، في المقابل ترى كل الكائنات الأيديولوجية تدلي بدلوها في مصير البلاد، الأمر الذي يحز في قلوب المخلصين كثيرا، ويجعلهم يتساءلون أين الخلل، هل التضييق والتعتيم الرسميين وحدهما كافيين لتفسير هذا التراجع، أم إن هناك اسبابا أخرى ذاتية مرتبطة باستراتيجية الجمعية وقيادتها حاليا؟ 

 

الأدهى والأمر، أن تغيب شخوص وشخصيات الجمعية أو تكاد، عن الخوض في لب الصراع الحاصل بالبلد

 

لقد ظلت الجمعية في زمن الاستعمار تتحرى عدم الانجرار الكامل في المستنقع السياسي، وتحاول أن تتحايل على قوانين فرنسا "اللائكية" لكي تقول كلمتها، وبالفعل كانت رغم تلك الظروف الصعبة رقما صعبا في المعادلة الجزائرية، بينما تكاد الجمعية اليوم، تختفي من المعادلة الوطنية، لأن دولة الاستقلال فرضت القيود ذاتها على الجمعية، غير أن الفرق بين نتيجة الأمس واليوم، هي الفرق في نوعية رجال الأمس ورجال اليوم، وهو ما يفتح المجال واسعا أمام التأويلات بكل أبعادها.