أفكَار

الإسلام السياسي بالسودان.. المرجعية وأزمة المشروعية

خبراء ومفكرون سودانيون يقرأون مصير الحركة الإسلامية في بلادهم بعد سقوط البشير (عربي21)

توحي الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير عن السلطة التي رفعت شعارات إسلامية لمدة قاربت ثلاثين عاما، عن انحسار كبير في تجربة "الإسلام السياسي" في السودان، ما يدفع بأسئلة ضرورية حول مصير هذا المفهوم الذي واجه أخطر المحكات وهو الوصول إلى تسلم زمام السلطة وإدارة المجتمع، وعادت الأسئلة القديمة إن كان فشل الحكم الاسلامي يقابله صعود علمنة الدولة في بلد مزقته سنين طويلة أسئلة الهوية والتطبيقات المختلة للشريعة الإسلامية.

الآن، وأكثر من أي وقت مضى، يبرز سؤال مصير "الإسلام السياسي" في السودان، في ظل مخاوف مُعلنة من قبل الإسلاميين من الإقصاء بعد ثلاثة عقود من السيطرة على الدولة بتحالف قوي مع المؤسسسة العسكرية بقيادة الرئيس المعزول عمر البشير، وهي التجربة التي يعتمدها خصومهم السياسيون باعتبارها كفيلة بإقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي، ودليلا قاطعا على فشل "الإسلام السياسي" في إدارة المجتمعات المتنوعة، بيد أن القضية ما تزال في حاجة إلى رؤية بعيدة عن المكايدات سياسية تشمل مراجعات أكثر عمقا مما يبدو الآن على المشهد السوداني.


تبتدر "عربي21" هذا الملف حول مستقبل الإسلام السياسي في السودان، بتقرير افتتاحي ينظر في عدة زوايا لباحثين ومثقفين سودانيين كبار، حول المرجعيات الفكرية التي صاغ بناء عليها إسلاميو السودان مشروعهم السياسي.

 



الفكر والسياسة

يقع العبء الأكبر على مصير "الإسلام السياسي" في السودان على الحركة الإسلامية التي تميزت عن كثير من الحركات في العالم الإسلامي بمشاركتها في الحكم، بل هيمنتها، خاصة وهي وصلت إلى الحكم بواسطة الانقلاب العسكري، كما يميز التجربة هو أسبقية الوصول إلى مرحلة الدولة عن الحركات الأخرى في العالم الإسلامي وما شاب هذه التجربة من نقاط قوة وضعف مع مراعاة التجارب الأخرى التي وصلت إلى ذات مرحلة التجربة السودانية ولكنها لم تستمر فيها لوقت طويل.

يقول الباحث في فكر الجماعات الإسلامية الدكتور محمد خليفة صديق لـ "عربي21": "إن الحركة الإسلامية وضعت على عاتقها هم النهوض بالإسلام والمسلمين عبر برنامج واضح يبدأ بالفرد الصالح لنفسه المصلح لمجتمعه، مرورا بالمجتمع الصالح الذي يتكون من مجموعات من الأسر وصولا إلى الدولة الإسلامية التي يحكمها الدستور الإسلامي الذي يعني بالضرورة شكلا من أشكال الخلافة الإسلامية عبر التنسيق أو اتحاد مشابه للاتحاد الأوروبي أو بأي صيغة ترضي الأطراف الفاعلة فيه".

ويشير دكتور محمد خليفة صديق إلى أن هذا الموضع، يرتكز مرجعيا على وصف مؤسس حركة "الإخوان المسلمين" في مصر حسن البنا حينما وصف "الفهم" المطلوب أن يكون عليه الأخ بأنه "الفهم العميق"، وجعل الفهم أول أركان البيعة، وذلك لأهميته، اقتضى ذلك أن يكون الأخ محتاجا مع جهاده وحركته بالدعوة إلى: "الفهم العميق ـ التكوين الدقيق ـ الحب الوثيق"، وتلك الصفات لهذه المتطلبات ليست أمرا بسطيا أو مجرد ثقافة أو مرحلة، إنما تحتاج إلى جهد متواصل، وتربية مستدامة، وضوابط ومظاهر تقوم عليها.
  
عدوى حزبية

وليس بعيدا عن ذلك، ترى دائرة الفكر السياسي والاجتماعي والشأن العام في الإحياء والتجديد في تحليلها لحال الحركة الإسلامية السودانية ومستقبلها السياسي، أن نشأة الحركة الإسلامية تطبعت بطبائع الإدارة والسياسة، وأغفلت ـ دون عمد ـ جانبا أهم من الذي استفرغت جهدها فيه، فأضحت حركة سياسية غالب همها المنافسة والمغالبة الانتخابية.

ويضيف المتحدث بأسم المجموعة المقداد الهجانا في حديث لـ "عربي21": "إن ما أصاب الحركة لعلها عدوى من بقية أحزاب السودان، إذ ليس لتلك الأحزاب هم شاغل، سوى الكسب الانتخابي والحشد السياسي العاجل، لا النظر الإصلاحي الآجل، فبددت الحركة طاقة هائلة في سبيل تلك المغالبة، وطنت نفسها وبنيتها التنظيمية على أساس تلك النظرة الضيقة مما دفعها ضرورة للتغاضي عن دورها الأهم والأبلغ وهو الإصلاح الاجتماعي ومما انعكس أثره كذلك سلبا على الحركة فكانت عرضة للانشقاقات والإفتراقات والمخاشنات التي بلغت حد التنابز المسلح.

أزمة المشروعية

بالنسبة للدكتور محمد خليفة فإن عدة إشكاليات واجهت مفهوم الإسلام السياسي الذي تمثلته الحركة الإسلامية، أبرزها مدى مشروعية فكرة الوصول إلى السلطة عبر القوة، ثم مدى وشكل العلاقة بين الحركة والدولة، وتساؤلات حول إن كانت هذه العلاقة أبوية أم صراعية أم تعاونية، وموقف الحركة الإسلامية الآن من الحركات الإسلامية الأخرى في البلاد وخارجها مثل الإخوان المسلمين وتيار التصوف والسلف وغيرهما.

ويقول الباحث الدكتور محمد خليفة الصديق لـ "عربي21": "إنه ليس من الصحيح والصواب نسيان الامتداد الجذري والتاريخي للحركة الإسلامية وإقصائه بعيداً عن مسارات المد الإسلامي والإصلاحي للحركة، لأن في ذلك ضرب من التضييق، وتفسير خاطئ لمكونات الحركة الإسلامية وأصولها التاريخية، ولم ينكر قادة الحركة هذا المنحي، ووصف الدكتور حسن الترابي عراب الحركة الإسلامية الحديثة في السودان أن هذا الاتجاه في الربط التلقائي بين بواعث الحركة الإسلامية الأولى، والإرث التقليدي الإسلامي في السودان بأنه: (استمداد من التدين العرفي)، ولكن أضاف عاملاً آخرا، كان سبباً مباشرا، في حركة النهضة، والبعث والصحوة الحديثة، هو صدى الصحوة الإسلامية العالمية بتطوارتها التاريخية وتوجهاتها الفكرية، ولذلك نشأت الحركة مقبلة على الأدب الحركي الإسلامي الوارد من مصر وباكستان وغيرهما، وشدت آصرة العلائق مع تلك الحركات، واعتبـرت كيانها جزءاً من الحركة الإسلامية العالمية إلى حين".

النموذج والمثال

ويلاحط الباحث صديق أن الترابي كان يدعو إلى أن يكون لكل شخص اجتهاده الخاص في مجاله، وينبغي أن لا يحتكر العلم طائفة محدودة من الناس (فكل مسلم عالم بشيء نوعا ودرجة وفوق كل ذي علم عليم يتفاعلون ويتبادلون، وكذلك واجب التدبر والتفكر في الدين سلم عالم بشيء نوعا ودرجة وفوق كل ذي علم عليم يتفاعلون ويتبادلون، وكذلك واجب التدبر والتفكر في الدين خطاب شامل، لكل مسلم كسبه من ذلك، وعليه أن يجتهد اجتهاده، وأن يتفاعل مع إخوانه من دونه ومن فوقه تناصحاً، فالعلم والاجتهاد حركة مجتمع، مهما برزت إعلام يؤهلهم كسبهم لقيادة التفكير أو التعبير عن الكسب العام).

 


وفي هذا الخصوص يرى صديق أن هذا الاتجاه في التفكير يستدعي حاليا أسئلة مشابهة حول بقاء التنظيم الذي تمسكت به الحركة مضمونا أحيانا وشكلا في أحايين أخرى أثناء تمكنها في الحكم، في ظل إسلامية الدولة والمجتمع، وتماهي الحركة مع وحدة أهل القبلة والأطروحات الشبيهة، ومرحلة ما بعد الحركة الإسلامية، أو حركة الإسلام كما يطلق عليها البعض.

الفقه السياسي 

يرى السياسي والباحث في الفكر الإسلامي أبو بكر عبد الرازق في حديث لـ "عربي21"، أن حركة الإسلام السياسي في السودان اعتمدت مبدأ الحرية في نشاطها وقبولها للآخرين كمرجعية قرآنية، لكن واقع السلطة كان مغايرا، إذ أن المناخ المثالي لنمو التدين الصحيح بكل أبعاده لم يكن متوفرا لها على إطلاقه وهي في الحكم، وأن حركة الإسلام تبينت أن الفقه السياسي أدق من الفقه النظري، فهو يرتب اولويات الانتقال نحو النموذج والمثال عبر تيار الزمن، والتاريخ بصبر وعزم يقدم هذا ويؤخر هذا ويصرف بين هذا وذاك في إدراك القضايا الملحة التي تثيرها تطورات الواقع المحلي والإقليمي والدولي، وأن يحسن التعامل تحكما في نسق التفعل بين عناصر ومكونات البناء الاجتماعي العام المنتج لدرجة راقية من ممارسة الحياة الإنسانية وهي الإنسان والطبيعة والزمن والعلم والعمل ومعرفة المدخل الصحيح للتأسيس والتعاطي مع أقدار الانتقال عبر الأجل خطة قبل خطوة ومصيرا قبل مسير اقتداء بسنن الرسل والأنبياء الذين دخلوا مداخل لقضية التوحيد أم المعاني الدينية، وهدف المؤمن ومغزى حياته من خلال وعيه بتحديات مجتمعه مثلما دخل ابراهيم عبر محاربة الوثنية وشعيب بمحاربة الظلم الاقتصادي وعيسى  النزوع المادي ثم الرسول الخاتم، فالروح والمقاصد والأهداف والمغازي التي تقود الحكم وتملي الخطط والقرارات واستقامة الذات كلها ذات مرجعية قرآنية.