قضايا وآراء

انتفاضة السودان والجزائر وعودة الروح للشعوب العربية

1300x600

الأنظمة العربية في مجملها تسعى بكل السُبل منذ سنوات لتكبيل المواطن، وتقييده، بل وصل الأمر بهم إلى أنهم جعلوا الشعوب تعتاد على بيئة الاستبداد والقمع، ووُلدت أجيال كثيرة لم تر إلا هذا الجو العام من الظلم والقهر.

 

وهم المتسلطين

وقد تحدث المفكر الفرنسي "إيتيان دو لا بويسي" (1530 - 1560) في كتابه "مقالة في العبودية المختارة" عن (المواطن المستقر)، قائلاً: "عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتلاءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر". 

 

 

تعرُّض الشعوب المستمر إلى الظلم والقهر والقمع والتفقير ينتج حالة ثورية شعبية عفوية ضد الوضع القائم


بمعنى آخر نجد أن مجمل الذين ينشأون في بيئة الظلم والقمع والاستبداد، يوهمهم المتسلطون أن هذا هو السبيل للاستقرار. وهذه الأنظمة المستبدة تُهدر الفكر، وتحجر على العقول وتخلق مواطنين يقتصر نشاطهم الفكري على مستوى البحث عن المعاش فقط متكيفين مع الاستبداد والطغيان. 

ويتجلى ذلك في الانعدام المعرفي وقلة الإنتاج الفكري، بل والجهل بما يُحاك لتلك الشعوب من هذه الأنظمة التي تعمل لصالح عدوها، وتُمهد له الأرض لكي يهيمن ويسيطر على مقدرات الشعوب، وهنا يسهل الانقياد وراء الاستبداد السياسي والديني حينها.

لكن حالة التكيف هذه مع الاستبداد ليست أزلية، إذ أن تعرُّض الشعوب المستمر إلى الظلم والقهر والقمع والتفقير ينتج حالة ثورية شعبية عفوية ضد الوضع القائم قد يغيب عنها المتحزّب والمثقف أحيانًا.

وهذا ما حدث أخيرًا في السودان والجزائر بعد حالة الانكسار التي أصابت بلدان الثورات العربية، نتيجة لتوحش الثورة المضادة، وهيمنتها على المجال العام.

يقظة السودانيين بعد غياب عن الثورات العربية

ما يحدث في السودان هو تعبير حقيقي عن يقظة هذا الشعب، وعدم انخداعه بالنظام القائم الذي جثم على صدره لثلاثين عامًا، منذ وصول البشير إلى الحكم من خلال انقلاب عسكري عام 1989، والملاحظ أن مؤسسات الدولة التعليمية والثقافية والعسكرية والاقتصادية كلها سُخِّرت لتمكين النظام للبقاء في السلطة كل هذه الفترة.

ومن أهم الأسباب التي أدت إلى انتفاضة الشعب السوداني: هيمنة النظام على مقاليد الحكم في البلاد وإغلاق المجال العام، واتخاذ ما يلزم من إجراءات تضمن له البقاء في الحكم؛ وفرضه ما أسماه سياسة "التمكين"؛ فأبعد من الوظائف الحكومية، خصوصًا الجيش والشرطة، كل من يشك في ولائه له، وأحلّ محلهم أنصاره، كما نشط في مطاردة النقابيين والناشطين سياسيًا، فأودع قياداتهم السجون، ودفع آخرين إلى مغادرة البلاد، واستهدف النظام الحزبين الكبيرين، "حزب الأمة" و"الحزب الاتحادي الديمقراطي" بالتفتيت عبر الضغوط والإغراءات المتوازية، وأحكم سيطرته على وسائل الإعلام، واستحدث ما سُمي "الرقابة القبلية" على الصحف قبل صدورها، وتطور ذلك إلى مصادرة الصحف، بعد أن تكتمل طباعتها، بقصد إرهاقها ماليًا. كما حظر على بعض الصحافيين الكتابة، وأرهقهم بالاستدعاءات الأمنية وبمقاضاتهم أمام المحاكم. 

 

ما يحدث في السودان هو تعبير حقيقي عن يقظة هذا الشعب، وعدم انخداعه بالنظام القائم الذي جثم على صدره لثلاثين عامًا


ولم يسجل نظام البشير منذ وصوله إلى الحكم إنجازات فعلية خلاف تمسكه بالسلطة، إذ فشل في الحفاظ على وحدة البلاد، ولم ينجح في إدارة هذا البلد الزراعي الخصب والغني بالموارد، وفشل في توفير السلع والخدمات وكبح جماح الغلاء. 

وبسبب الحصار الطويل وسوء إدارة الاقتصاد، تراجعت قيمة الجنيه السوداني، من 3 جنيهات تقريبًا، مقابل الدولار الأمريكي الواحد، عندما استلم النظام الحكم عام 1989، إلى نحو 47 جنيها حاليًا. 

كما فشل النظام في جلب استثمارات مفيدة لاقتصاد البلد حتى بعد رفع العقوبات، بسبب انتشار الفساد ونهب المال العام.

كل هذه الأسباب وغيرها أدت إلى اندلاع هذه الاحتجاجات في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، ولكنها وصلت إلى حالة من توازن القوى بين نظام الحكم والقوى المنتفضة ضده؛ فلا النظام استطاع قمعها، كما فعل في انتفاضة أيلول/ سبتمبر 2013، ولا المنتفضون من القوى الشبابية والمعارضة تعبوا من النضال، أو استطاعوا تحقيق خرق في اتجاه هدفهم المعلن، وهو إسقاط النظام المستمر في حكم البلاد لهذه الفترة. 

فالحراك مستمر، ولكنه، بقي محصورًا في فئة الشباب والطلاب، رغم تواصله واتساع رقعته الجغرافية وتعدد أساليبه، ولم يستطع حتى الآن استقطاب الشرائح الاجتماعية الكبرى في المجتمع. ومع ذلك يمثّل هذا الحراك، التحدي الأكبر الذي يواجه نظام الرئيس عمر حسن البشير منذ وصوله إلى السلطة.

ومن أبرز علامات هذا الحراك أيضًا حرصه على الطابع السلمي، ورفض أي شكل من أشكال العنف؛ فخلال ما يقارب الثلاثة أشهر لم تُسجَّل عليه، في العاصمة الخرطوم، حادثة تخريبٍ واحدة، ولم تلصق به التهم ومحاولات الافتراء عليه بهذا الشأن. 

ويتميز هذا الحراك أيضًا بوقوف بعض الطرق الصوفية التي تنتشر في السودان على نطاق واسع إلى جانبه؛ إذ لهذا التحول دلالاته، نظرًا إلى المزاج العام المتدين في السودان الذي يغلب عليه التصوف.
الجزائر وموجات التغيير.

لقد أشعل قرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الترشح لعهدة خامسة احتجاجات عارمة في الجزائر، حيث اجتاحت البلاد لأسابيع موجة بشرية لم تشهدها البلاد منذ إعلان استقلالها عن فرنسا في عام 1962. 

وهذه الموجةٌ الجماهيرية لا تزال تتصاعد لأسابيع عديدة في الجزائر، وتثبت أنه طالما استمرت المشكلات السياسية، والاقتصادية، والاستبداد، والدكتاتورية، والفساد، فستستمر الجماهير في المقاومة والانتفاض لانتزاع مصالحها كلَّما توفَّرَت الظروف المناسبة لذلك.

وانتفاضة الجزائر حطَّمَت أسطورة "العشرية السوداء" (1992-2002)، التي ظلَّ النظام يبتز بها الشعب طيلة السنوات السابقة، مُتوعِّدًا بتكرار ويلاتها حال معارضة استمرار النظام أو المساس به. 

وهذا يثبت أن الثورة لا تزال خيارًا سياسيًا للشعوب، بل هي الحل الوحيد لتجاوز مشكلات أنظمةٍ لا مجال لإصلاحها. فبوتفليقة لا يمثل سوى واجهةٍ تعمل من خلفها شبكاتٌ فاسدة من الجنرالات وكبار رجال الأعمال.

وبعد الضغوط الشعبية المتوالية رضخ نظام بوتفليقة لرغبة الشعب بعدم توليه السلطة لفترة خامسة، بعد محاولته المناورة من خلال بقائه في السلطة لعام واحد إذا تم انتخابه، وأصدر بيانًا بعد عودته للجزائر من جنيف، ‏بعدم ترشحه في الانتخابات الرئاسية، وتأجيل الانتخابات، وتشكيل حكومة جديدة تتكون من كفاءات وطنية، وعقد ندوة وطنية تحدد موعدًا جديدًا للانتخابات تقودها شخصية مستقلة.

 

انتفاضة الجزائر حطَّمَت أسطورة "العشرية السوداء" (1992-2002)، التي ظلَّ النظام يبتز بها الشعب طيلة السنوات السابقة


ومع ذلك تجددت المظاهرات الطلابية في الجزائر للمطالبة برحيل وجوه النظام، ورفض القرارات التي أعلنها الرئيس، والمتعلقة بتشكيل حكومة جديدة والدعوة إلى عقد مؤتمر وفاق وطني، ما يفتح الباب أمام احتمال أن تشهد الجزائر جمعة رابعة غاضبة وأكثر تعبئة من الجمعات الثلاث الماضية، وأعلنت كوادر الحراك الشعبي رفضها لقرارات الرئيس بوتفليقة، وتعيين وزير الداخلية "نور الدين بدوي" رئيسًا للحكومة، دون استشارة الحراك، وقيادات المعارضة السياسية، والنخب المستقلة والحوار معها، ودعت إلى مظاهرات حاشدة يوم الجمعة المقبل تحت اسم "جمعة الرحيل".

وركّز المتظاهرون على المطالبة بتطبيق المادة (102) التي تنص على "إمكانية إيجاد خلف لرئيس الدولة في حالة تعذّر استمراره في مزاولة مهامه"، في إشارة إلى مرض الرئيس بوتفليقة، واضطراره لحضور المناسبات الرسمية بكرسي متحرك، إضافة إلى غيابه عن الحديث المباشر للجزائريين منذ أكثر من ست سنوات.

أقول: المارد خرج من القمقم، ولن تفيد محاولات الأنظمة العربية البائسة كثيرًا في إعادته إلى سجنه وقيده مرة أخرى. ولعل انتفاضة الشعبين السوداني والجزائري تعيد الروح مرة أخرى لشعوب المنطقة العربية للتخلص من الطُغمة الحاكمة.