كتاب عربي 21

تهافت المحاماة عن التطبيع التلفزيوني!

1300x600

بقيت دائما قضية التطبيع واضحة. وللمفارقة، وقبل أن ندخل في مرحلة الانهيار الكامل، كانت نخب داعمة لاتفاقيات السلام الرسمية مع "إسرائيل"، معارضة للتطبيع الشعبي وما يمكن أن يندرج في إطاره، بما في ذلك التطبيع الإعلامي والثقافي.

إلا أنّ القضية لم تعد بهذا الوضوح، وللمفارقة مرة أخرى، حتى، كما يظهر في بعض الأحيان، لدى نخب محسوبة على أوساط قريبة من الإسلاميين، أو من حركات مقاومة هي تعارض التطبيع حتما، ولكنّها تخفّف من شأن ممارسات تطبيعية لجهات تجدها تلك النخب قريبة منها بنحو أو بآخر.

في مقالة سابقة لي، حول مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، تساءلتُ: "لماذا فشلت العربية مقابل الجزيرة؟"، قلت إنّ الجزيرة، ظلّت عموما أقرب إلى وعي الجماهير في ما يخصّ قضاياها الجوهرية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية والموقف من الاستعمار عموما، كما أنّها لم تتبن أجندات معادية للجماهير حيال تلك القضايا، ولا تجاه الحركات الإسلامية بتياراتها المتعددة، وهو أمر، وبالإضافة إلى حالة التحوّل العميقة التي خلقتها الجزيرة بمنحها منبرا لمن "لا صوت لهم"، جعل الجزيرة أقرب دائما إلى تلك الجماهير، ومنها أوساط الإسلامين، الذين وجد بعضهم نفسه في موقف الدفاع عن استضافتها متحدثين إسرائيليين، أو عن شخصيات قبلت أن تحاور هؤلاء الإسرائيليين، ولو من موقع الهجوم، في برامج الجزيرة.

 

استضافة إسرائيليين في القنوات العربية يحوّل القضية الفلسطينية برمّتها من قضية لا تشوب عدالتها شائبة، إلى قضية تحتمل تعدد وجهات النـظر

الخطورة في موقف بعض نخب هذه الأوساط، تكمن في جعل القضية الواضحة غاية الوضوح في أصلها، نسبية وقابلة للنقاش، تماما كما أن استضافة إسرائيليين في القنوات العربية يحوّل القضية الفلسطينية برمّتها من قضية لا تشوب عدالتها شائبة، إلى قضية تحتمل تعدد وجهات النـظر، لا في ما يتعلق بخبر الحدث الجاري فحسب، بل وحتّى في السرديّة نفسها، كما حصل في برامج تلفزيونية ذات نمط من التطبيع الثقافي، كتلك التي أنكر فيها مؤرخ إسرائيلي وجود المسجد الأقصى في فلسطين، وزعم أنّه ليس سوى مصلى موجود على طريق الطائف بالجزيرة العربية.

يجدر التنبيه عند التمثيل بهذه الحادثة تحديدا، إلى أن القناة نفسها التي استضافت المؤرخ الإسرائيلي ليطرح ادعاءه الزائف هذا، كانت قد أعدّت من قبل برنامجا، وإن كان أقلّ شهرة وجماهيرية، للتشكيك في دوافع الروائي المصري يوسف زيدان، الذي سبق له وردّد الهراء نفسه، مع أنّه لم يفعل أكثر من أنّه تلقف ادعاء المؤرخ الإسرائيلي، ونسبه إلى نفسه. هذا التعاطي مع قضية بالغة الحساسية، للمسلمين عموما وللفلسطينيين خصوصا، وينهض عليها جزء أساسي من الدعاية الصهيونية.. يكشف عن توظيف للقضايا المبدئية لا يراعي حساسيتها العالية ويعيد تكييفها لحسابات سياسية خاصّة تقصر عن جسامة تلك القضايا.

 

يسوّغ البعض للتطبيع التلفزيوني، بهذا الانهيار، على اعتبار أنّ التطبيع التلفزيوني غير مؤثّر؛ طالما أنّ المشهد العربي بهذا القدر من الانهيار والتراجع والهرولة التطبيعية في المستويات كافّة مع "إسرائيل

لا تدرك بعض تلك الأوساط، من الإسلاميين والنخب القريبة من المقاومة الفلسطينية، خطورة دورها مع الانهيار الكامل الذي لم ينقل القضية الفلسطينية من موقع الإجماع والوضوح الجلي إلى موقع الاختلاف والالتباس فحسب، بل أكثر من ذلك، حينما صار تبني السردية الصهيونية معلنا في الفضاءات العربية، ومن ثمّ يبقى الدور الأساس لهؤلاء، من إعلاميين ومثقفين، إسلاميين ومحسوبين على خطّ المقاومة، من مواقعهم الإعلامية والثقافية، في دحض مقولات هذا الانهيار الناجمة أساسا عن تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية نسبية لا تعني العرب كلهم، بل بعضهم، ولا تمتلك (أي القضية الفلسطينية) مقولات صلبة غير قابلة للنقاش!

على العكس من هذا الدور، يسوّغ البعض للتطبيع التلفزيوني، بهذا الانهيار، على اعتبار أنّ التطبيع التلفزيوني غير مؤثّر؛ طالما أنّ المشهد العربي بهذا القدر من الانهيار والتراجع والهرولة التطبيعية في المستويات كافّة مع "إسرائيل"، وهو تبرير لا ينمّ عن غفلة فحسب، بل عن قبول ضمني ببعض صور هذا الانهيار!

لا يقلّ عن ذلك خطورة التسليم بوجود رواية إسرائيلية تحتاج تفنيدا في فضائنا العربي، مع الغفلة التامّة مرّة أخرى؛ عن أنّ هذه الرواية ما كان لها أن تدخل بيوت العرب لولا تلك الأقنية الفضائية، وأنّ تلك الرواية تجري مناقشتها في ساحتنا العربية، لا في الساحة الإسرائيلية، بمعنى أنّنا نساهم في تشويش وعي المواطن العربي تجاه القضية الفلسطينية، بدلا من تثبيت وضوح القضية وجلائها في وعيه.

 

يتمسك البعض بكون مضمون بعض المحاورين العرب والفلسطينيين مناقضا بالكامل للخصم الإسرائيلي، بيد أنّ هذا يزيد الأمر فداحة، لانطوائه على تناقض صارخ يهدم مصداقية الموقف المناوئ للتطبيع

في هذا السياق، يتمسك البعض بكون مضمون بعض المحاورين العرب والفلسطينيين مناقضا بالكامل للخصم الإسرائيلي، بيد أنّ هذا يزيد الأمر فداحة، لانطوائه على تناقض صارخ يهدم مصداقية الموقف المناوئ للتطبيع، إذ لا يعقل أن تعارض استضافة شخصيات إسرائيلية ثم تحاورها في البرنامج نفسه، ومن جهة أخرى، وفضلا عن خطورة التطبيع من حيث هو تطبيع، فإن الاعتراض السابق على تشويش وعي المواطن العربي الذي يساهم فيه خصوم الضيوف الإسرائيليين، بصرف النظر عن مضمون خطابهم وقوّة طرحهم.

وبالعودة إلى إشكالية المصداقية، فإنّ المحظور ينبغي أن يظلّ محظورا، مهما كانت درجة اقتراب مقترفه أو ابتعاده، وهذه بدهية لا تستوجب بيانا، ولا يُردّ عليها بفضائل يمكن أن تساق لهذا الطرف القريب أو ذاك؛ إذا وقع في محظور التطبيع، فالفضائل لا تغير من حقيقة الرذائل، بل إنّ اقتراب بعض الأطراف يستوجب ممارسة التأثير عليها للكفّ عن أي مسلك تطبيعي تقترفه. وفي حال "كنّا" القلعة الأخيرة في مواجهة هذا الانهيار الكامل، فإنّه لا يلزمنا شيء أكثر من الحفاظ على مصداقيتنا، بالتزام مبدئيتنا من هذه القضية وغيرها، وإلا لكان موقفنا محض توظيف سياسي، كأيّ أحدّ يبيح لنفسه ما يحرمه على غيره، هذا فضلا عن كون وظيفة القلعة أن تكون قلعة، لا تتسامح مع أي اختراق في جدارها!

فإن قيل: ماذا نفعل وهذه القنوات لا تأتمر بأمرنا، ولا تنتظر موافقتنا، وهي مصرّة في الأحوال كلها على استضافة الإسرائيليين على شاشاتها، فهل نترك الإسرائيلي وحيدا منفردا ساعتها بروايته. والجواب نعم، وهذا الحدّ الأدنى من الاعتراض على هذا المسلك التطبيعي المشين، ومواجهة هذا المسلك لم تُجرّب بالقدر الكافي بعد، وإن كانت مواجهته واجبة على أيّ حال. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه وإن بدا التسامح مع هذا المسلك في وقت ما مفهوما بالنظر إلى أولوية القضية الفلسطينية وصدارتها في بعض القنوات وخطابها الجيد حيالها في ذلك الوقت، فإنّ الأمر لم يبق على هذا الحال الآن، بعدما تراجع حضور القضية الفلسطينية، إلى درجة تقارب العدم، إلا من زاوية استضافة الإسرائيليين!