قضايا وآراء

ضرورة تصويب مسيرة العودة

1300x600

لا يزال يسعنا القول إن مسيرة العودة تمثل خياراً استراتيجياً للنضال في سبيل تحقيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين، لذلك يجب ضمان ديمومة هذا الخيار وتوسعه ليشمل كافة أماكن تواجد اللاجئين الفلسطينيين ومختلف الساحات العالمية، وتطوير أساليب هذه المسيرات وفق محددين اثنين: أن تمثل هذه المسيرات ضغطاً حقيقياً على المشروع الاستيطاني الإحلالي في فلسطين وإزعاجاً له؛ بجره إلى المربع الأول للمشكلة متمثلا في ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين ينشدون حقهم الفطري والعادل والمتفهم إنسانياً بالعودة إلى أراضيهم وقراهم التي هُجّروا منها قسراً، وأن تدار هذه المسيرات بطريقة اقتصادية حكيمة؛ كيلا تتحول هذه الوسيلة إلى عبء على الشعب الفلسطيني يجعل لمواصلتها ثمنا باهظا.


أصر على الدفاع عن مبدأ مسيرات العودة؛ لأن هذه المسيرات من حيث فكرتها المبدئية تمثل الاستجابة التاريخية الصحيحة للشعب الفلسطيني المضطهد منذ سبعين عاماً، والذي لم يفارقه يوماً الحلم بالعودة إلى وطنه. مسيرات العودة ببساطة مثلت المحاولة الفعلية للعودة الجماعية لهؤلاء اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الذي هجروا منه قسراً. وبالنظر إلى الهدف الأساسي الذي عمل عليه المشروع الاستيطاني الصهيوني منذ سبعين عاماً بشطب الشعب الفلسطيني من الوجود، فإن هذه المحاولة ومن حيث كونها محاولةً تمثل إرباكاً حقيقياً للمشروع الصهيوني، وإفشالاً لمحاولاته تطبيع وجوده، وحرماناً له من الشعور بالاستقرار بينما يبني ازدهاره على حساب معاناة شعب آخر.  

 

مسيرات العودة ببساطة مثلت المحاولة الفعلية للعودة الجماعية لهؤلاء اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم الذي هجروا منه قسراً

تخيلوا لصاً استولى على بيت بالقوة، وبعد عشر سنوات من مكوثه في هذا البيت جاء صاحب البيت الضعيف وأخذ يدور حول البيت ساعةً من نهار وينظر إليه ثم انصرف، وصار يكرر هذا الفعل ساعةً كل أسبوع، هل سيبقى اللص قادراً على الشعور بالاستقرار والأمن بينما صاحب الحق يقول له كل أسبوع: أنا هنا لم أمت ولم أنس حقي؟! هذا بالضبط ما يمكن لمسيرة العودة أن تفعله في بنية المشروع الاستيطاني الصهيوني.

لكن أخطاءً وقعت في طريقة إدارة مسيرات العودة أضرت بوهجها، وأضعفت وضوح رسالتها، وهو ما يقتضي أن تكون هناك مراجعات جذرية لهذه الأخطاء، وليس أن نتخلى عن فكرة مسيرات العودة.

في العشرين من شباط/ فبراير عام 2018، وقبل بدء المسيرة بأربعين يوماً، كتبت على حسابي في فيسبوك مجموعةً من المبادئ المقترحة لمسيرة العودة الكبرى، هذه المبادئ تتضمن أن تكون هذه المسيرات سلميةً لا تستعمل فيها أي أداة سوى الاحتشاد السلمي، وأن تكون هذه المسيرات مستدامةً ومتراكمةً وشاملةً لكافة أماكن وجود اللاجئين الفلسطينيين، وأن تكون حقوقيةً تهدف إلى تطبيق حق العودة، ولا علاقة لها بأي أجندة سياسية، وأن تكون وطنيةً تشترك فيها كل مكونات الشعب الفلسطيني تحت علم فلسطين، وأن تكون قانونيةً وتطالب بتطبيق القرارات الدولية بشأن اللاجئين الفلسطينيين، وأهمها قرار 194.

 

أخطاء وقعت في طريقة إدارة مسيرات العودة أضرت بوهجها، وأضعفت وضوح رسالتها، وهو ما يقتضي أن تكون هناك مراجعات جذرية لهذه الأخطاء، وليس أن نتخلى عن فكرة مسيرات العودة

لكن الهيئة الوطنية التي تشكلت من القوى الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني؛ توافقت على أن يضاف إلى هدف العودة هدف كسر الحصار، فتحول اسمها إلى "مسيرات العودة وكسر الحصار". وكسر الحصار هو هدف مهم وملحّ دون ريب، خاصةً في ضوء الأوضاع الكارثية التي يعاني منها أهالي قطاع غزة، لكن مشكلة إضافة هذا الهدف أنه مثّل تخفيضاً مجانياً من قبل منظمي المسيرات لسقف أهدافهم الوطنية. ولو أخذنا بمقولة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "اطلبوا الموت توهب لكم الحياة"، فإنه يمكن القول قياساً عليها: اطلبوا الأهداف الكبيرة توهب لكم الأهداف الصغيرة، دون أن نكون مضطرين إلى تشتيت الإجماع الوطني والمساندة العالمية حول قضية العودة الكبرى.

وليت الأمر توقف عند هدف كسر الحصار، لكن سياسة الاحتلال أشغلتنا عن الأهداف الكبيرة بالتفاصيل الصغيرة، وسعت إلى تكريس معادلة مهينة للكرامة الوطنية عبر الربط بين إدخال الوقود والأموال القطرية بوتيرة رفع أو خفض المسيرات. وكسر الحصار هو هدف أكبر بكثير من مناقشة جزء من رواتب الموظفين كل شهر، فكسر الحصار يعني فتحاً كاملاً لكل معابر قطاع غزة، ودوران عجلة الاقتصاد، والسماح للسكان بحرية الحركة دون قيود.

من المؤسف والمهين لقضيتنا الوطنية أن يتحول إدخال جزء من رواتب الموظفين كل شهر إلى قضية رأي عام، ومادة ابتزاز من قبل الاحتلال.. هذه الرواتب هي أقل من الحق الإنساني الطبيعي الذي ينبغي أن يتلقاه أصحابه بسلاسة، دون ضجة أو مساومة. يريد الاحتلال من خلال هذا الابتزاز إضعاف قوة مسيرات العودة ووضوحها المبدئي، بعد أن كانت تناضل في سبيل غاية وطنية كبرى، فيوصل رسالةً إلى الرأي العام الفلسطيني بأن منظمي هؤلاء المسيرات يسعون إلى فتات من المال فيفقد الناس حرارة الدافع الوطني للمشاركة والعطاء.

 

ومن أجل استمرار مسيرات العودة وتراكمها، فإنه يجب العمل الحاسم على تخفيض تكلفتها. مسيرة العودة لا تقوم فكرتها على الاشتباك والمواجهة الميدانية، بل تقوم فكرتها على الاعتصام السلمي

هذه المعادلة المهينة يجب أن تستفز كرامتنا الوطنية فنسعى إلى تغييرها. إن الواقع الإنساني في قطاع غزة بالغ القسوة، لكن لا خيارات أمامنا سوى أن ننفر إلى القضايا الكبرى. مسيرات العودة هي شكل من أشكال المقاومة السلمية المشروعة في كل الأعراف وليست مادة مساومة، بل إن استمرارها يجب أن يكون بمعزل عن أي تطورات سياسية. يجب أن يكون خطابنا للعالم أن كسر الحصار هو مقابل إنسانية المحاصَرين، وليس مقابل تخفيض أو رفع وتيرة النضال السلمي. فمن حق الناس أن يحتشدوا ويتظاهروا ويطالبوا بالعودة إلى ديارهم، حتى لو كُسر الحصار وتحولت غزة إلى جنة مزدهرة.

ومن أجل استمرار مسيرات العودة وتراكمها، فإنه يجب العمل الحاسم على تخفيض تكلفتها. مسيرة العودة لا تقوم فكرتها على الاشتباك والمواجهة الميدانية، بل تقوم فكرتها على الاعتصام السلمي الآمن على غرار ميدان التحرير في عام 2011، وأن يمارس الناس أنشطةً ثقافيةً وإعلاميةً على بعد آمن من جنود الاحتلال، ويعرّفون العالم بحق العودة عبر الرسم والأغنية والدبكة وإحياء التراث الشعبي، وأن تمتد هذه الروح إلى كل أماكن تواجد اللاجئين في الضفة وفلسطين الداخل والدول المحيطة، وأن تسند بحركة تضامن عالمي تبرز قضية اللاجئين وحقهم بالعودة والتعويض، وتحاصر مشروع الاحتلال بإشهار تناقضاته الأخلاقية.