ملفات

الجزائر.. الانقلاب على انتخابات 91 دليل عجز على تقاسم السلطة

قال بأن الفرقاء الجزائريين وصلوا إلى قناعة بعبثية الحرب بينهم وعدم امكانية الإقصاء

جاء دستور 1989 في الجزائر أكثر من رائع مقارنة مع ما كانت تعيشه دولة كانت إلى قرابة عام، تصرّ على الحزب الواحد، بل أساسًا على اعتبار التعدديّة السياسيّة باب بلاء ومدخل شرّ، وصولا إلى النظر إليها في صورة المؤامرة المفتوحة على العود إلى التبعيّة، التي عاشتها البلاد وكذلك العباد زمن الاستعمار الفرنسي.

جاء هذا الدستور حلاّ أو هو نقطة تقاطع متخيّلة تبحث أو هو في حاجة إلى مرتكزات ثابتة بين:

أوّلا: سلطة تريد في أن يمكّن هذا الدستور من الحفاظ على باطن الدولة وعمقها التاريخي وخاصّة شبكتها الممتدّة عبر أدوات نفوذها التاريخي، السياسي والعسكري خاصّة.

ثانيا: معارضات تريد أن تمسك هذه الدولة من هذا الدستور نصّا وتطبيقًا، بل أن تلغي به وتنسخ ما سبق أحداث تشرين أول (أكتوبر)، نسخًا لا يقبل التراجع ولا يحتمل الارتداد.

ثالثًا: عمق شعبي لا وعي له بالنصّ في صيغته الدلاليّة، بل مطالب تتراوح بين فرحة الحياة وما هي مباهج الدنيا...

 

اقرأ أيضا: الكتاب الذي كان يجب أن يهز الجزائر!

الأكيد وما لا يقبل الجدل، يكمن في تعدّد القراءات بل تناقضها بين الأطراف الواقفة ضمن المشهد السياسي الجزائري، خاصّة في علاقة بما هي شرعيّة السلطة وما هي شروط المسلك والممارسة. لم تكن الديمقراطيّة ذات النفس الليبرالي الغربي التي جاء بها دستور 1989 تمثّل أدنى اتفاق أو حتّى توافق أو هي نقطة تقاطع بين الأطراف الفاعلة ضمن المشهد.

غياب نقطة التقاطع زادته حدّة، تقوقع كلّ طرف ضمن منظومته الذهنيّة، ممّا أحال الأمر إلى واقع منفصل اشتدّ بين شرعتين:

أوّلا: شرعيّة الدولة المتأصلة ضمن ما تملك من تاريخ حكم مسنود بما هي الثورة التحريريّة والممارسة الممتدة منذ 1962 إلى حدود تشرين أول (أكتوبر) 1988، أيّ الدولة الوطنيّة.

ثانيا: شرعيّة الدين المتأصلة أو هي المستفيدة من فشل دولة الاستقلال في تأمين شعارات شكّلت أحداث تشرين أول (أكتوبر) 1988 الدليل الأكبر على ذلك.

شرعيتان على طرفي النقيض

كلّ ما جدّ منذ فتح المجالات السياسيّة والإعلاميّة على مصراعيها في الجزائر أمام تعدديّة بفعل دستور 1989، إلى حين إيقاف المسار الانتخابي إثر إعلان نتائج الدور الأوّل من الانتخابات التشريعيّة ودفع الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الاستقالة بتاريخ 11 كانون الثاني (يناير) 1992، لا يعدو أن يكون سوى حالة انفصام مزدوجة: 

شرعيتان على طرفي النقيض من بعضهما البعض، تتنازعان السلطة وفق شكليات منظومة ديمقراطيّة، تدّعي الدولة أنها تدافع عنها، في حين تعلن الجبهة الاسلاميّة للانقاذ التشبّث بها.

في الآن ذاته، غابت الديمقراطيّة، وكانت شديدة الحضور إثر إيقاف المسار الانتخابي:

أوّلا: حضور في خطاب الدولة المدافعة عن ديمقراطيّة مفترضة جاءت جبهة الانقاذ لوأدها، وفق خطاب السلطة.

ثانيا: حضور في خطاب الجبهة الإسلاميّة المدافعة عن ديمقراطيّة فاعلة قامت الدولة بوأدها، وفق خطاب الجبهة.

ثالثا: غياب الديمقراطيّة (على الأقلّ في الشكل الذي نصّ عليه دستور 1989) من تراث الطرفين وكذلك آليات الممارسة السياسيّة عند كلّ منهما.

الحرب على أرض ديمقراطية

العنف الذي انطلق غداة إيقاف المسار الانتخابي لم يكن في حقيقته سوى التعبير عن التناقض بين القراءتين القائمتين، سواء لأحقيّة الاستفراد بالسلطة والعجز أو هو الرفض عن تقاسمها، بما في ذلك غياب أدنى ثقة بين الطرفين. كذلك تعبير عن التناقض أو هو الانفصام الحاصل لدى كلّ طرف على مستوى فهمه لما هي ديمقراطيّة 1989. دون اغفال قيام الحرب، ضمن جميع المعاني، على أرض ديمقراطيّة غير صلبة، ممّا يعني البحث (في الآن ذاته) لدى كلّ طرف من المتحاربين عن الاستقرار فوق الديمقراطيّته المعلنة، وكذلك مقاتلة الطرف المقابل، من خلال اقصائه عن الحقل الديمقراطي الدلالي.
 
الغرق ضمن مستنقع العنف المتبادل والمزمن، جعل كلّ طرف يرحل بالمفهوم المعتمد من قبله عن الديمقراطيّة من كونه أصل المعركة الكلاميّة ليتحوّل إلى خطاب ثانوي:

أوّلا: لأهميّة الصراع العسكري في بعده الدموي المزمن، وغرق البلاد في مستنقع العنف، دون قبول أيّ طرف التسليم للطرف المقابل،

ثانيا: توسّع الصراع من بعده الثنائي بدخول أطراف جزائريّة أخرى، مثل الجماعات الاسلاميّة المقاتلة ومشتقاتها، التي لا تتمثّل أي تأويل ديمقراطي للصراع.

ثالثًا: توسّع الصراع من بعده الداخلي، وتحول الإرهاب في تسعينات القرن الماضي إلى معطى إقليمي ودولي، جعل دستور 1989 وما جاء به من ديمقراطيّة مفترضة أو مرفوضة من طرفي الصراع في الجزائر، شأنًا داخليّا بمعنى الثانوي.

لم تنته العشريّة السوداء ولم يتوقف العنف السياسي لحصول اتفاق حول نظريّة الديمقراطيّة، بل لحصول توافق منطقي حول عبثيّة العنف، أو بالأحرى عبثيّة ممارسة العنف، ممّا يعني نزوعًا دون الحسم الذي انطلق على أساسه الفصل المفاهيمي، سواء ما خصّ الديمقراطيّة ذاتها أو شروط ممارستها، وخاصّة، وهنا لبّ المسألة، ضوابط التداول السلمي المفترض على الحكم.

منزلة بين المنزلتين

يمكن الجزم أن التوافق حول عبثيّة العنف الذي قامت على أساسه منظومة الوئام المدني، زمن الرئيس اليمين زروال أوّلا ومن بعده الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وما أسّس لها وصاحبها ونتج عنها من مصالحات، لا تمثّل حالة أو حلاّ ديمقراطيا، ضمن المفهوم الليبرالي المتداول لهذا اللفظ، لكنه يمثّل، وهنا الأهميّة بالنسبة للجزائر، قطعا مع الفكر الاقصائي والاستئصالي المتبادل، ممّا يعني أنّنا أمام حالة وسيطة أو هي نقطة توازن بين نقيضين متنافرين، أو منزلة بين منزلتين:

أوّلا: ما كانت تعيشه الجزائر من حسم قاطع دون أدنى أهميّة بما هو الظاهر السياسي مثلما كان الحال مع إيقاف المسار الانتخابي. 

ثانيا: وعاء ديمقراطي وجب الحفاظ عليه والتشبث به (مهما كان الثمن)، يقطع مع العنف المجاني أو هو المبالغ فيه أو الزائد عن الحاجة.

حركة البهلوان هذه، التي صار النظام الجزائري يبرع فيها ويتقنها، ترسخت لديه أشبه بالبحث أو هو الهوس الشديد بل المرضي، ضمن تعريفات علم النفس السريري. تأصّلت في صورة الهويّة الجينيّة السياسيّة القائمة راهنًا، أساسًا من خلال القطع مع منطق 11 كانون الثاني (يناير) 1992، حين صارت الهويّات السياسيّة للمتعاملين لدى عقل السلطة العميقة لا علاقة لها البتّة بما هي الهويّة الأيديولوجيّة بل بما هو الموقف من السلطة والموقع منها. 

خلاصة:

كما مثلت أحداث تشرين الأول (أكتوبر) 1988 شلال دماء فاض عن كأس سلطة لم تعِ حينها أنّ مركز ثقل التوازنات الضامنة للاستقرار (ضمن المعاني المفترضة والمتخيَّلة)، غادر مربّع هذه السلطة مهما كان تعريفها، هناك إقرار صريح وخطاب رسمي وعلني، بأنّ عهد الإقصاء، على خلاف الدستور وفي قطيعة مع القوانين، ولّى دون رجعة. مع التأكيد أنّ هذه المشاركة وهذا التقاسم مسّ ظاهر المسرح السياسي (الحكومة وأدوات السلطة التنفيذيّة) دون أن يمتدّ بما يكفي ليشمل عمق الدولة الفاعلة، ممّا يطرح السؤال المعرفي عن اكمال الشوط الثاني من الصراع السلمي والمفتوح حول الديمقراطيّة المفترضة، بعد أن صار الرفض لهذه الديمقراطيّة مستحيلا...

 

اقرأ أيضا: الجزائر 1988.. دماء حارقة وديمقراطيّة مفترضة (1من2)