كتاب عربي 21

العنف المقبول

1300x600
كان المفكر الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679) يرى أن "حالة الطبيعة" هي حالة حرب وعداء، بافتراض أن طبيعة الإنسان أنانية. ويقصد بحالة الطبيعة؛ الحالة التي لا يوجد بها نظام، بل يقوم فيها المجتمع بإدارة شؤونه بنفسه، والتقاضي بنفسه والاقتصاص أيضا بنفسه، وكان يعتبر - وفقا لمقولته الشهيرة - أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، فحالة الطبيعة بالنسبة له حالة حرب وعداء دائمين.

اعتبر هوبز أن الحل، هو تنازل الناس عن جزء من حقهم الطبيعي الفردي، وإعطائه لسلطة سيادية تقوم بمباشرة هذه الحقوق مجتمعة، لتتشكل ملامح نظرية (العقد الاجتماعي). وقد تشكّلت هذه النظرية في الفترة التي شهدت معاهدة وستفاليا (1648) التي أنهت ثلاثين عاما من الحروب الدينية في أوروبا، فتضافرت عوامل واقعية وسياسية وفكرية، وأخرجت لنا الدولة القومية الحديثة بصورتها الراهنة.
ما يعنينا من ذلك؛ أن الدولة أصبحت هي القائمة على استخدام العنف وتفسيره، وتحديد ما يمكن تسميته بأنه "عنف أخلاقي" وما يمكن وصمه بضد ذلك

عمدت الدولة الحديثة إلى تعزيز وضعية الحكام في مقابلة المحكومين، وأصبح مفهوم السيادة هو أبرز ملامح سلطتها السياسية. ويتم التعبير عن السلطة السياسية بأنها "احتكار أدوات الإكراه المادي من قبل الحاكمين، مع تصور المحكومين أنه احتكار خيّر ويستهدف الصالح العام"، فأصبح استخدام "العنف" وفقا لهذا المفهوم حِكْرا على جماعة الحكم، وصدوره من غيرها أمارة (فوضى/ إرهاب/ تمرد.. إلخ)، واقتضت هذه الصورة وجود ضمانات للمحكومين عبر عملية تقسيم السلطات وحق الانتخاب، وغيرهما مما لا محل لذكره هنا.

ما يعنينا من ذلك؛ أن الدولة أصبحت هي القائمة على استخدام العنف وتفسيره، وتحديد ما يمكن تسميته بأنه "عنف أخلاقي" وما يمكن وصمه بضد ذلك.

في سياق متصل، بدا مصطلح حقوق الإنسان برّاقا وآخذا بالتزايد عقب الحرب العالمية الثانية، ودخل إلى مقررات جامعية بمصر أواخر العقد الأول من القرن الحالي. واستحدثت وزارة الداخلية المصرية قطاعا لحقوق الإنسان لتناقش ادعاءات انتهاكها حقوق الإنسان إذا أثيرت، وأصبح ملاحظا على المستوى العالمي التذرع بحقوق الإنسان عند مواجهة العنف أو ممارسته على السواء، من نفس الجهة، فإذا توجّه العنف إلى الدولة هرعت إلى المناداة بتجاوز حقوق الإنسان من قِبل الجهة المعتدية، وإذا بادرت بالعنف، دفعت بمراعاتها لقيم حقوق الإنسان أثناء قتالها، أو أنها قامت بالعدوان أساسا من أجل نشر "قيم السلام العالمية" كالعدوان الأمريكي على العراق أو أفغانستان، أو العدوان الدائم من الاحتلال الإسرائيلي على الدول العربية.
أصبح ملاحظا على المستوى العالمي التذرع بحقوق الإنسان عند مواجهة العنف أو ممارسته على السواء، من نفس الجهة، فإذا توجّه العنف إلى الدولة هرعت إلى المناداة بتجاوز حقوق الإنسان من قِبل الجهة المعتدية

ما يلفت النظر هو قيام الجيش الأمريكي بإعطاء دورات حقوق الإنسان للجنود الذين يقوم بتدريبهم. ووفقا لكتاب "عن حق الإنسان في الهيمنة"، فإن أستاذ القانون بجامعة هارفارد "ديفيد كينيدي" يصِف رسالة الجيش الأمريكي للمتدربين بأنها "لقد أكدنا أن القانون الإنساني سيجعل جيشكم أكثر فاعلية، وسيجعل استخدامكم القوة شيئا يمكنكم استدامته وتقفون خلفه فخورين"، وبالتالي يمكن لأحدهم أن يُديم استخدامه للعنف وهو فخور، بل يمكنه أن يقتل وهو لا يزال فخورا.

هذا التناقض بين القيم "العنف وحقوق الإنسان، العنف والسلطة السياسية" يحتاج للبحث، فما الذي يدفع القاتل لإيجاد مبرر أخلاقي لقتله؟ وربما تطرح لالِه خليلي، الأستاذة في جامعة لندن، إجابة هامة تكشف سر هذا التناقض، فهي ترى أن "استدعاء القانون والشرعية عادة ما يشيِّد سلوك الحرب ويؤثر في بنيتها، وذلك يساعد في تفسير وجوب تذرّع الدول بحقوق الإنسان كوسيلة لضمان الامتثال الإداري والأخلاقي". فحقوق الإنسان والاستناد القانوني في السلوك، يمثلان ركيزة الامتثال لنظام الدولة، ومن ثم صار لدينا عنف مقبول وآخر يتم وصفه بما يؤدي لكونه خروجا على القانون والنظام العام، سواء كان القانون دوليا أو محليا.

الآفة التي تعاني منها منطقتنا العربية أنها ضحية لعنف دائم لا تمكن السيطرة عليه، إما على المستوى الدولي أو على مستوى بطش الحكام، ولا توجد توازنات للقوى تردع النظم المستبدة أو قوى الهيمنة الطامعة في السيطرة على مقدرات دول العالم الثالث، فنتج عن ذلك ردات فعل من جماعات محلية أو إقليمية أو دولية، فصرنا أمام "إرهاب، أو جهاد عالمي"، وكليهما يسوغ استخدام العنف إزاءهما دون حدود من "أصحاب السيادة" الذين حددوا ما هو عنف أخلاقي ومقبول وما هو عنف غير أخلاقي وغير مقبول، وإن قاموا بممارسات أبشع من ممارسات تلك الجماعات التي توصف بالإرهاب، فهم يضمنون الإفلات من العقاب أو الملاحقة، باعتبار أن عنف الدولة أخلاقي، وقتل الأبرياء أو تعذيبهم يعد ضررا جانبيا في ظل الحرب على "الإرهاب".
كل ذلك يجري بمباركة السلطة، وتحت زعم "محاربة الإرهاب" لتزداد النار اشتعالا في نفوس المظلومين، ويندفع الشباب للعنف المحدود الذي يستمد النظام بقاءه منه

إن سلوك نظام الحكم في مصر منذ انقلاب 2013 لا يُفهم إلا في هذا الإطار، فالعنف حِكر عليه أيا كانت صورته، سواء بالقتل في الميادين، أو الاعتقال، أو التعذيب، أو منع المعتقلين من حقوقهم بدءا من الغذاء والكساء وانتهاء بالدواء، وتعمّد قتلهم بالإهمال الطبي، أو قيامها بقتل بعضهم خارج إطار القانون، أو إصدار أحكام تفتقر لأساسيات قواعد التقاضي، أو حرق المنازل أو تحطيمها، أو التحفظ على الأموال ومصادرة الأصول والمنقولات.. كل ذلك يجري بمباركة السلطة، وتحت زعم "محاربة الإرهاب" لتزداد النار اشتعالا في نفوس المظلومين، ويندفع الشباب للعنف المحدود الذي يستمد النظام بقاءه منه، ويتذرع به أمام الغرب المتواطئ معه. ويجري ذلك في ظل تغييب متعمد لأي مساحة سياسية تنفس بعض الغضب والطاقات، وفي ظل سحق اقتصادي لا يراعي ظروف المجتمع، ويلبي طلبات الغرب الداعم لبقائه.

ينبغي التشديد هنا على ألا يكون العنف متاحا لأفراد المجتمع، بل يجب أن يظل في يد جهة "يراقبها المجتمع" مراقبة حقيقية لا صورية، وعلاج الاستبداد تحديدا لا يكون بمواجهته بالسلاح، بل تظل المقاومة السلمية أنجع سبل إزاحته، بخلاف العدوان الخارجي الذي يحتاج لإزالته برد مقابل، كما تفعل حركات المقاومة في الأراضي المحتلة، كما تظل الحاجة إلى نزع الحجج القانونية لاستخدام العنف من قِبَل الدولة، وكشف سوءاتها وآثار ما تقوم به، خاصة أن ما ينتج عن العنف لا يمكن درء مخاطره على المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.