قضايا وآراء

هل يفتح الحوار المغربي الجزائري الطريق لتحقيق المشروع المغاربي؟

1300x600
شكلت الدعوة إلى الحوار بين المغرب والجزائر، التي تضمنها خطاب العاهل المغربي بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لذكرى "المسيرة الخضراء" (6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018) مبادرة لافتة وجديرة بالاهتمام والتقدير، فهي المبادرة الأولى المباشرة والصريحة منذ تولي الملك محمد السادس الحكم عام 1999، وهي من جهة ثانية متزامنة مع سياق إقليمي ودولي دقيق ومُشجع على الحوار أكثر من أي وقت مضى، وهي في مستوى ثالث سعي مُقدّر لكسر جليد الجفاء في علاقات الجارين الشقيقين المغرب والجزائر.

ثمة ما يشبه الإجماع على أن العقبة الكأداء في تعثر "المشروع المغاربي" كامِنة في العلاقات المغربية الجزائرية، التي غلب عليها الجفاء والتوتر أكثر مما سادها الوئام والتعاون. فأكثر من خمس وخمسين سنة على استقلال الجزائر (1962) لم تُفتَح الحدود البرية بين البلدين أكثر من عشرين سنة، وما زالت حتى الآن مغلقة منذ أحداث صيف 1994، لتقترب بذلك من رُبع قرن من الزمن. وليس خافياً على القراء الكرام دورَ الحدود البرية في توطيد العلاقات وتقويتها عبر الانسياب الطبيعي للأشخاص والبضائع، وكل ما يسمح بتشابك المصالح والمنافع، ويولد لدى مواطني البلدين الشعور بالانتماء المشترك، ويخلق لديهم تقديرا واعيا لمنافعها، و يدفعهم تاليا إلى التمسك بها والدفاع عنها.

لاشك في أن لدعوة المغرب إلى إيجاد آلية للحوار مع الجزائر سياقها، ورهاناتها، والأهداف المرجوة منها، وهو أمر نخاله طبيعيا ولا مندوحة عنه في كل عمل سياسي، فبالأحرى في التفاوض الذي يُعد من ضرورات السياسة ولوازمها. وبغض النظر عن دوافع الدعوة إلى الحوار، وطبيعتها، أكانت ظرفية أم استراتيجية وبعيدة المدى، فإن قيمة الحوار والشجاعة إلى الدعوة إليه، والاستجابة التلقائية إليه هي ما يمكن الوقوف عنده، والتشديد على أهميته. فالمغرب والحزائر يحتاجان إلى شجاعة الحوار الصريح، والصادق، والمسؤول، والموجه بنداء المستقبل. وبدون كسر هذه الحلقة المهمة والخطيرة جدا، يتعذر وضع العلاقات المغربية الجزائرية، ومن خلالها المشروع المغاربي برمته، على الطريق السليم والسالك،. فالحوار بالمواصفات السالفة هو المبتدأ والمنتهى.

لم تلق المبادرة المغربية إلى الحوار، المعبّر عنها في الخطاب الأخير للعاهل المغربي، وحتى الآن، أية استجابة جزائرية رسمية، على الرغم من التشجيع الذي تلقته عربيا ودوليا. ومن الراجح أنها لن تجد استجابة في القادم من الأيام، ومع ذلك تبقى خطوة ذات قيمة في سيرورة البحث عن صيغ لإعادة بناء العلاقات المغربية الجزائرية.. فالحوار إن تحقق، وتمّ تأسيسه على الصدق والمسؤولية، والواقعية، والوفاء بالالتزامات، سيفتح الباب واسعا أمام تحقق المشروع المغاربي، الذي عزّ عليه الانتقال من الفكرة إلى الواقع، ومن المحسوس إلى الملموس، على الرغم من أنه من أقدم المشاريع الجهوية والإقليمية في العالم.

جدير بالإشارة أن الحوار المنشود، علاوة على متطلباته سالفة الذكر، أي الحاجة إلى أن تكون المجتمعات، عبر مكوناتها وتعبيراتها، عنصرا مشاركاً فيه، وألا يظل حواراً بين النخبة. وكي تكون المجتمعات مشاركة بشكل فعال في الحوار، يُتطلب أن تكون القضايا المُتحاور حولها واضحة ومقنِعة، وذات قيمة مُضافة بالنسبة للمجتمعات.. ومن هنا يمكن للحوار أن يشكل رافداً حقيقياً وفعليا لإعادة إحياء المشروع المغاربي، الذي توقف منذ عقود.. وإلا سيستمر دورانُنا في حلقة مُفرغة، وسنخلف موعدنا مع التاريخ، وسنساهم في إطالة عُمر الضياع، الذي دون شك لن تتسامح الأجيال المقبلة في توجيه اللوم والمسؤولية إلى من كانوا وراء حدوثه وديمومته في الزمن.

يُساعد الحوار الصادق والمسؤول، إن تحقق، في أن ينزع الطابع النخبوي عن الفكرة المغاربية، ويحولها إلى مشروع مجتمعي لكل شعوب المنطقة، وبذلك سيمدها بالقوة التي ظلت في حاجة إليها. ولنا في التجارب الدولية والإقليمية نماذج للاستئناس والمقارنة. ثم إن الحوار الجدي والمسؤول، إن تحقق، سيمكن من رسم معالم واضحة، وواقعية، وقابلة للتحقيق لكل أهداف المشروع وأبعاده، وسيسهّل عملية التنفيذ والإنجاز.. أما إذا افتقد هذه المتطلبات، كما هو حاصل، فسيبقى عبارة عن تمنيات نتوسل تحقيقها بالوجدان، ونعجز عن إنجازها بالعقل والإدراك. ثم إن الحوار الواعي، الواضح والمسؤول، سيمكن المغاربيين، وعلى وجه التحديد نخبهم، من التخلص من ضغط التاريخ ومواجعه، وسيقنعهم بالنظر إلى حاضرهم ومستقبلهم، وسيلزمهم بتفكيك عُقد التاريخ لأنها فقدت جدواها أمام التغيرات النوعية الهائلة في مجتمعاتهم.. فأكثر من سبعين في المئة من سكان بلاد المغرب تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة. فهؤلاء لا يعنيهم على مستوى الوعي والإدراك ما فرّق أجدادهم وآباءهم، بل يهمهم بدرجة أولى ما ينفعهم في حاضرهم، ويضمن لهم ازدهار مستقبلهم.

الخلاصة إذن أن الحوار قيمة بالغة الأهمية، ومن الزكيات الطيبات. فكما نمتلك جرأة الدعوة إليه، علينا امتلاك جرأة الإنصات إليه والاستجابة إليه، إن نحن أردنا النظر إلى مجتمعاتنا وما ينفعها في الحاضر ويصونهام في المستقبل. أما غير ذلك، فنستمر في مراكمة الإخفاقات، ونشجع على خيبات الأمل في نفوس شرائح واسعة من مجتمعاتنا لا وِزرَ لها في ما وقع، ولا في ما يقع في الحاضر.