قضايا وآراء

العري الإنساني أمام أطفال اليمن

1300x600
يحدث في زمن الوفرة أن يموت الأطفال جوعاً، ويحدث في زمن التقدم العلمي أن يذوي الأصحاء من غير علة ثم يموتوا بفعل تفشي الأوبئة ونقص الدواء والخدمات، ويحدث في زمن مواثيق حقوق الإنسان أن يدفع الأبرياء تكلفة الحرب، وأن يتخذ الطغاة من إبادتهم ورقة ضغط سياسية؛ وهم آمنون من العقاب.

في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وبالتزامن مع يوم الغذاء العالمي، حذّرت الأمم المتحدة من أن اليمن بات على مشارف "أكبر مجاعة في العالم". وقال المتحدّث باسم برنامج الأغذية العالمي إن 18 مليون يمني لا يعرفون من أين سيؤمنون وجبتهم التالية.

أما منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسيف، فقد كشفت قبل أيام قليلة أن طفلا يموت كل 10 دقائق في اليمن بسبب أمراض يمكن علاجها بسهولة. تترافق هذه الإحصائيات الصادمة مع صور لا تحتملها القلوب المرهفة؛ لأطفال يمنيين التصقت جلودهم بعظامهم وهم يتلوون جوعاً ومرضاً، في انتظار أن يفتك بهم الموت.

هل كان ينقصنا فصل جديد من المأساة الإنسانية لتتبدى لنا سوءاتنا، ولنعلم أن الإنسانية في مجموعها قد فشلت في تحقيق الكرامة والعدل لكل الناس، رغم الإمكانات الهائلة المسخرة طوع يديها، ولنتأكد كم أن هذا النظام الدولي غارق بالتناقضات؟!

نظام يلقي فيه القاتل كلمة سلام، ويعظ فيه السارق عن محاربة الفساد، وتعقد فيه الأطراف المغذية للفتن مؤتمرات لبحث سبل الاستقرار.. أما نشر الديمقراطية و الحضارة فتتولى أمرها دول ذات تاريخ حافل في قتل الحريات ومعاداة إرادة الشعوب!

هل لنا أن نلقي باللوم في موت أطفال اليمن من الجوع والأوبئة على العدوان الخارجي الذي يصب حمم نيرانه فوق رؤوس المدنيين، بعد أن أخفق في هزيمة الحوثيين؟ أم نلوم الحوثيين بسبب إيثارهم مصالحهم الخاصة على وحدة اليمن ومصالح شعبه؟ أم نلوم إيران على تغذيتها القلاقل والانقسام في بلد أنهكه الفقر والجوع والمرض؟ أم نلوم أمريكا على صفقات الأسلحة التي تغذي بها نظاماً راعياً للظلم وانتهاك حقوق الإنسان؟

لكل فريق من هؤلاء كفل من الجريمة، لكن المشهد الكلي هو أن النظام الدولي فشل في تحقيق مبادئ العدالة، فوجود فئات طامعة بالسلطة داخل بلد وسعيها إليها بكل سبيل غير أخلاقي أمر دائم الحدوث في تاريخ الاجتماع الإنساني. وعدوان بلد قوي على جاره الضعيف أمر مألوف في دورة الأيام، أما المحاكمة الأساسية فينبغي أن توجه إلى النظام الدولي الذي يستند إلى جملة من المواثيق والمعاهدات التي تنص على صيانة كرامة الإنسان ورعاية حقوقه، لكنه لم يكن وفياً لهذه المبادئ وآثر الانحياز إلى المصالح على حساب الأخلاق، ولم يطور أدواته لتتحول إلى قوة إلزام لأي دولة أو جماعة بأن تلتزم بحقوق الإنسان أو أن تواجه عقوبات دوليةً على انتهاكاتها وجرائمها بمعايير قانونية واضحة، دون تدخل للهوى السياسي ودون محاباة لطرف دون آخر، فتكون معاقبة الدولة المارقة قراراً مبنياً على النظر القانوني والتقدير المهني وحده، وليس قراراً سياسياً تقدمه أو تؤخره مصالح الدول العظمى؛ دون اعتبار لفظاعة الجرائم والانتهاكات الممارسة.

لقد نجح البشر داخل دولهم أكثر مما نجحوا على الصعيد الدولي، فعرفوا الفصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، وغدا جهاز الشرطة ملزماً بتنفيذ أوامر القضاء دون اعتبارات سياسية.. هذه الصيغة هي ما نحتاج مثلها في المستوى الدولي، فيتحول التدخل العسكري إلى عمل آلي بمجرد ثبوت حدوث انتهاك في أي رقعة جغرافية، تماماً كما أن تدخل الشرطة هو عمل آلي بمجرد إبلاغها بحدوث شجار.

إن الحالة الدولية مدانة إزاء الجرائم التي تمارس ضد الشعوب؛ لأنها لم ترسخ اعتبار حقوق الإنسان أساساً للعلاقات الدولية، وإذا كان من الإنصاف الإشارة إلى سياسات بعض الدول التي تعلق تصدير السلاح إلى الدول التي ترتكب جرائم حرب، إلا أن هذه الحالة الدولية اتسعت للرئيس الأمريكي ترامب أن يؤكد عقب اغتيال الصحفي جمال خاشقجي على ضرورة إمضاء صفقات بيع السلاح للسعودية، حتى وإن ثبت تورطها في الجريمة؛ لأن هذه الصفقات توفر وظائف للمواطنين الأمريكيين!

لم يكن هذا الموقف ليصدر عن ترامب لولا وجود بيئة سياسية تتفهم هذا المنطق في تقييم الأمور، وما يعنيه هذا الموقف هو أنه لا مانع من قتل مزيد من المواطنين في بلد فقير ما دام ثمن ذلك توظيف مزيد من المواطنين الأمريكيين، إذ إن بيع السلاح لمجرم قاتل، ثبت إجرامه لدى الدولة التي تصدر السلاح إليه، هو مشاركة مباشرة في جرائم هذا القاتل في المستقبل، وامتلاك هذا المجرم للسلاح يعني مزيدا من الضحايا المؤكدين.

إن موت أطفال في أي مكان من العالم جوعاً وفقراً هو فضيحة أخلاقية؛ لأن موارد الأرض تكفي لإشباع كل سكانها. فأزمة الجوع هي أزمة عدالة وإرادة وليست أزمة نقص موارد، ولو امتلك النظام الدولي الإرادة الحقيقية لأنهى مشكلة الجوع جذرياً، ولخلق الضمانات الملزمة لكل الحكومات بوصول المقومات الأساسية للحياة لكل الناس، وتجنيب إقحام الاحتياجات الإنسانية الضرورية في الصراعات.

يقول جيفري ساكس، مدير معهد الأرض فى جامعة كولومبيا الأمريكية، في كتابه "نهاية الفقر"، إن الدول الغنية قادرة وخلال فترة وجيزة على القضاء على الجوع والفقر، لكنها لا تريد..

أما كتاب "صناعة الجوع.. خرافة الندرة"، للباحثين الفرنسيين فرانسيس مور لابيه وجوزيف كولينز، فيرصد عدداً من الشواهد التاريخية التي تؤكد أن أمريكا تتعمد صناعة الجوع في بلدان العالم الثالث، وتستعمل الغذاء أداةً سياسيةً لمنع استقلال تلك الدول.

يذكر الكتاب أن السيناتور هيوبرت همفري، في منتصف القرن الماضي، انتقد الذين يريدون أن تكون المعونة الغذائية مجرد وسيلة للتخلص من الفائض، ورأى في الغذاء سلاحاً سياسياً قوياً، وهذا ما ترجمته السياسة الأمريكية حين قطعت المعونة عن تشيلي فجأةً، عندما انتخبت حكومةً لا تتوافق مع أهواء مصالح الشركات الأمريكية..

ولهذا السبب أيضاً، رفضت الولايات المتحدة عام 1974 توسيع برنامج الغذاء العالمي الهادف لمعاونة مناطق المجاعات؛ لأنهم لا يريدون المساهمة بالغذاء في المناطق الأقل خضوعاً لسيطرتهم، والتي لا يستطيعون فيها التأثير بشكل ملموس في توزيع المعونة..

ويضيف الكتاب: "ليس هذا فحسب، بل إن أمريكا تعمل جاهدةً على منع قيام اكتفاء ذاتي من الغذاء في بلدان العالم الثالث، لضمان ألا تكون هناك تنمية حقيقية، فتضع القيود على زراعة القمح، ويدل على ذلك رهن نفقتها السنوية على مصر بعدم التوسع في زراعة القمح".

أمام هذا الحشد من الحقائق المريرة، لا يسعنا فصل المحلي عن الدولي، وإذا كان من الضروري التأكيد على المسؤولية الذاتية للأطراف اليمنية والعربية في صناعة الكارثة، فإنه لا يمكن إغفال العامل الدولي. فالنظام الذي يقتل في اليمن هو نظام مدعوم أمريكياً بالسلاح وبالغطاء السياسي، وفي ضوء مواقف أمريكا التاريخية في استعمال الغذاء أداةً للابتزاز السياسي، فإن من غير المتوقع أن يتأثر ضمير السياسة الأمريكية بأخبار مجاعة جديدة ما لم تكن هناك قوة ضغط سياسية؛ ترفع من تكلفة الانحياز إلى نظام قاتل ينتهك حقوق الإنسان ويرتكب الفظائع ضد المدنيين.