كتاب عربي 21

فجوة الخطاب.. النقد الذاتي (35)

1300x600
أشرنا في نهاية المقال السابق إلى ضرورة أن نفرد مقالا مستقلا حول فجوة الخطاب وضرورة تلافيها في خطاب أهل الثورة، خاصة لدى معارضة الخارج. ومن المهم أن نؤكد في البداية أن الخطاب قد يجزئ في كثير من الأحيان عن الفعل؛ لا بمعنى الاكتفاء بالكلام، ولكن بمعنى أن الأقوال إنما تمهد للأفعال. ومن قيمة الخطاب أن يؤثر في العمل الميداني إن استطاع أن يجد له عقلا قابلا وقدرة على الفعل والفاعلية والحركة بمقتضاه وعلى هديه، ومن المهم كذلك أن نؤكد أن وضع استراتيجية للخطاب، خاصة فيما يتعلق بالمشروع من أجل الوطن وارتباط هذا الخطاب بالشارع، آلامه وآماله، إنما يشكل في حقيقة الأمر بداية مهمة لإحداث نوع من الالتفاف والاصطفاف حول مشروع يعبر عن جموع الشارع المصري، وكذلك عن تلك الآمال التي انعقدت عليها إرادته والأهداف التي حملتها وترجمتها ثورة يناير؛ من عيش وكرامة إنسانية وحرية أساسية وعدالة اجتماعية، ذلك أن الخطاب الذي يتمكن من التعبير عن هذه الأهداف هو الذي يمكن أن يلامس هذا الشعب، على تنوع فئاته وتكويناته، خاصة هؤلاء الذين استهدفوا بسياسات الإفقار الواسعة من جراء غلاء الأسعار، والاستخفاف بضرورات الناس واحتياجاتهم الأساسية، ومحاولة إخضاع هذا الشعب من خلال فرض سياسات التخويف والترويع والإفقار والتجويع.
 
ومن الأهمية بما كان أن نؤكد أن خطاب السلطة المستبدة بما يحمله من لغة الاستخفاف بالشارع وبكل مطالبه؛ إنما يعبر عن إلحاح الطلب وضرورته على خطاب بديل يتعلق بمعاش الناس والقدرة على تحريك معامل الغضب التي تعتمل في داخلهم، ومحاولة توظيف طاقات الغضب تلك وترشيدها ضمن خطاب الوعي العام والجمعي لعموم الشعب المصري، ذلك أن وعي الطبقة الوسطى بكل ما يمكن أن تسببه سياسات النظام الانقلابي في المجتمع وشبكة علاقاته، إنما يجب أن يشكل دافعا مهما لخطاب يقوم على مكافحة الفقر وسياسات الإفقار، وعلى مواجهة السلطة الباطشة التي تمارس بطشها وطغيانها في أشكال متعددة أخطرها على الإطلاق "البطش بالإفقار"؛ في محاولة خطيرة تحاول أن تجعل من تعميم بيئة الفقر الأنسب للمستبد لتشكيل عقلية القطيع في إطار من تدهور الأحوال المعيشية لتزداد مساحات المعدمين والفقراء. ومع تقاطع هذه الحال مع سياسات التخويف والترويع، تبدو هذه البيئة مواتية لتكريس بيئة من الخنوع الواسع والخضوع التام.

ومن ثم، فإن خطاب التحرير والكرامة إنما يشكل أهم طاقات تجعل من العيش الكريم أهم مفردات تحرك عموم الناس نحو مطالب حقيقية بالعيش المغموس بالكرامة المتوجب العدالة الاجتماعية، بما يعني ضمن ما يعني أن الحريات الأساسية والمدنية والسياسية لا يمكن أن تجد لها طريقا أو تحصينا إلا من خلال سند اقتصادي ومعاشي يؤسس لمعاني العيش الكريم، والذي يشكل مطلبا أساسيا لأهل الثورة وعموم الناس جميعا، فيؤكد ذلك الخطاب الثوري من خلال دعم جماهيري وظهير شعبي لثورة مستأنفة تجعل من أهم مطالبها أن تذهب إلى مطالب الناس لا أن تطالب الناس بالانضمام إليها، ولكن عليها هذه المرة أن تنضم هم إلى عموم الناس؛ تبنيا لمطالبهم وانخراطا فيما بينهم. ومن الأهمية أن نؤكد أن إضراب عمال المحلة كان أهم شرارة مهدت لثورة يناير، وكانت البداية الحقيقية لتبني المطالب المعاشية لفئات متنوعة من عموم الناس.
 
وكذلك إن الخطاب الذي يجعل من حالة الاصطفاف الجماعي حالة تشجع وتحفز الجماهير إلى الاعتصام بمثل هذا الأمر الذي يمثل مطالب معاش عموم الناس، بما يشكل أهم طاقة تعلو على الاستقطاب، وتحرك كل معاني الاصطفاف الحقيقي بين أهم فئات الشارع ومطالبه، بحيث يكون هذا الاصطفاف مقدمة حقيقية لحث الناس على أن يكونوا ذلك الظهير لأي اصطفاف سياسي لقوى تعيش هموم الناس وتتحدث بنفس مطالبهم ولسان معاشهم. إن هذا التطوير لمعاني الاصطفاف الحامل لخطاب المعاش إنما يشكل أساسا مكينا للقضاء على كل استقطاب يتعامل مع خلافات؛ يجب أن لا تكون مع تلك الخطورة التي تحيط بكل الوطن وبكل فئات هذا الشعب، ذلك أن تخريب مقدرات الوطن وموارده وشريان حياته المتمثل في مياه النيل والأمن القومي المصري، المتمثل في تأمين الموارد الأساسية وتأمين أراضيه، وكذلك مواجهة ذلك الاستخفاف الشديد بمستقبل الأجيال القادمة، في مصادرة متراكمة لهذا المستقبل من خلال الإفراط في سياسات الاقتراض التي تهدد مستقبلهم في حياتهم القابلة، حينما يترك الوطن مدينا بكل أفراده وشعبه؛ فيجعل الجميع مثقلا بهموم الفقر وهموم الدين والاقتراض الذي يطارد أبناءه حتى في مستقبلهم ومصائرهم.. إن هذه الحالة إنما تشكل فرصة لبناء خطاب اصطفافي تعبر عن إنقاذ الوطن وعموم فئات الشعب من خطر عظيم في الحال وفي المآل والاستقبال.
 
كذلك من الأهمية بما كان أن نشيد خطاب المعاش ضمن خطاب حقوقي عام؛ يؤسس لوعي بالحقوق ويدافع عن حقوق كل من ينتمي إلى هذا الوطن، حقه في الحياة وحقه في التملك وحقه في العمل. كل ذلك يمكن أن يترجم ضمن حقه العام والتأسيسي في عيشه الكريم العزيز، إذ يشكل ذلك مدخلا لمطالبة هذا النظام الفاشي بكل تلك الحقوق غير منقوصة، والقيام بكل ما من شأنه فضح انتهاكات هذا النظام اليومية في حق المواطن وحقوقه الأساسية والتأسيسية؛ كل المواطنين من كافة الاتجاهات، بعد أن طال الاعتقال والمصادرة للأموال كافة الفئات والأطياف السياسية والمجتمعية وصار العقاب عاما ومعمما، بحيث صارت المواطنة في مصر أشبه بصك العبودية لنظام صار يتعامل مع الجميع من أنهم من عبيد إحساناته وعقار يورث من نظام طاغٍ إلى نظام فاش مستبد، كل ذلك بمنطق السادة والعبيد الذي  صار يتحكم في تفكير هؤلاء الذين يتحكمون في مقدرات البلاد والعباد. ولا شك في أن فضح هذه العصابة التي صارت تقوم بكل ما من شأنه تأمين مصالحها وتحالفاتها الآنية والدنيئة، ضمن شبكة فساد واستبداد تزهق فيها الأرواح وتخون مقدرات الوطن وأرضه، وتفقر شعبا بأسره، وتخرب مستقبل البلاد والعباد.. كل ذلك يجب أن يكون ضمن خطاب للتوعية بحال هذه العصابة والتوعية بالخطر الدائم والداهم على الشعب والوطن، وضرورة فضح هذه العصابة في كل سياساتها، وكل ما يتعلق بضرورات هذا الشعب وقدرات هذا الوطن. فبين ضياع كرامة المواطن وامتهان مكانة الوطن، تبدو تلك العصابة التي تحاول أن تهيمن على كل شيء ومن كل طريق.
 
وكذلك، فإن الخطاب الذي يتعلق بضرورة فضح النظام وإعداد قوائم الاتهام لتلك العصابة منذ القيام بانقلابها؛ إنما يشكل في حقيقة الأمر مهمة يجب أن يمارسها إعلام الخارج، حتى يُحدث وعيا بانتهاكات هذا النظام في الداخل وفي الخارج على حد سواء. ومن المهم كذلك أن يكون هذا الخطاب مشفوعا برؤية مستقبلية لدولة يناير وحكم رشيد لدولة مدنية مصرية عادلة فاعلة؛ تؤكد على قدرة على الانتقال النوعي من حال الفقر المدقع إلى حال من العيش الكريم، ومن الظلم الفادح إلى العدل المقيم، ومن الفساد في عمليات التوزيع إلى العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد، سواء أكانت مادية أم معنوية، بما يحقق استراتيجية العدالة في حق كل المواطنين، وبما يؤسس لدولة يناير القائمة على العدل والحق والحرية.  إن هذا الخطاب الذي يتعلق بالمعاش والبناء وكشف هذه المخاطر التي تحيق بالوطن والشعب جراء حكم هذه العصابة؛ إنما يشكل أهم مثلث اهتمام ضمن خطاب واسع يقوم بالتحريك وبالتنوير والتأثير والتثوير ليوم الحشد الأكبر في التغيير الكبير (ترونه بعيدا ونراه قريبا).