قضايا وآراء

محاربة طواحين الهواء

1300x600
لا زلت أذكر كل المعارك الثقافية التي خاضها الجيل المتصدِّر سياسيّا من الإسلاميين، خصوصا في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين. لا زلت أذكر أكثرها بتفاصيلها، فقد تفتَّح وعي جيلنا على هذه المعارك. سلمان رشدي وفتوى الخميني، ونصر حامد أبو زيد وحجب ترقيته بلجنة عبد الصبور شاهين، وحيدر حيدر وروايته التافهة التي نشرتها وزارة الثقافة المصرية وحرب محمد عباس ضدها، ونوال السعداوي وكتبها الكثيرة التي صار يوسف البدري يتحيَّن صدورها ليشن حربه الكلامية ضدها كأنه يروج لها إلخ؛ وصولا إلى حلمي سالم وشرفة ليلى مراد، والفيلم الهولندي، وما سمي بأزمة الرسوم المسيئة.

وقد بدأ إدراكي يتبلور منذ عدة سنوات، لأرى هذه المعارك مجرد وسيلة استدراج للإلهاء بالشحن الأيديولوجي المضاد؛ الذي يُقعِدُ عن كل عمل حقيقي. فما أحقَّت هذه المعارك الكلامية حقّا ولا أبطلت باطلا؛ بل روَّجت للباطل كما لم تفعل أدواته، وصنعت من بعض محدودي الموهبة أبطالا لحرية التعبير، وجعلت رواية سلمان رشدي مثلا تتصدَّر قوائم الكتب الأكثر مبيعا في العالم، ويقف الناس في أوروبا صفوفا لاستعارتها من المكتبات العامة، إذ نفدت طبعاتها على إثر فتوى الخميني بإهدار دم مؤلفها، وذلك بعد أن كانت لا تجد من يستخدم ورقها في المرحاض!!

والمثير للتأمل أن جمهرة هذه المعارك الثقافية، التي ملأت الدنيا جعجعة بلا طحين؛ قد أضرمها جيل المتحولين من اليسار إلى الإسلام، أو كانوا هم أبرز "أبطالها". كأنهم بذلك يثبتون صدق تحولهم، ويقدمون أوراق اعتمادهم للمعسكر الجديد، فتجد أن من تولى كبر الدفاع عن فتوى الخميني - بإهدار دم سلمان رشدي - في بريطانيا والغرب كان كليم صدّيقي، ومن تولَّى سلخ نصر أبو زيد بعد خروج قضيته للفضاء العام كان جلال كشك، ومن نبَّه الناس لوجود رواية حيدر حيدر هو محمد عباس، وثلاثتهم من المتحولين من اليسار إلى الإسلام.

وقد كانت حماسة أحد هؤلاء "الشيوخ" المتحولين من الناصرية إلى الإسلام لأي صنم "إسلامي" عجيبة، وهو الأمر الذي لم أنتبه له أول الأمر، أن الرجل انتقل من الناصرية ببعض أمراضها التي لم يُشفَ منها قط! فحين أُعدِمَ صدام حسين؛ رثاه بحرارة لا تقل عن حرارته في رثاء ابن لادن والزرقاوي! وحين بلغه عجبي من ذلك، إذ تسبَّبت "مغامرات" صدام وجنونه في قتل ما لا يقل عن مليوني نفس مسلمة؛ قال كلاما عاطفيّا مُبهما لا يُبرر رثاء جزار كصدام. وتدور الأيام لينضم الرجل إلى معسكر حازم صلاح أبو إسماعيل الانتخابي، بعد أحداث 2011م؛ مُضفيا عليه من الصفات ما لا يكون إلا للأنبياء، ومتهما كل من ينتقده بخيانة الله ورسوله!

لقد كان أكثر مفكري اليسار المتحولين إلى الإسلام مشروعات واعدة بحق، لولا التشويش وتبديد الجهد في التعامل مع الحدث اليومي، والغفلة، بالانغماس في مثل هذه الأحداث؛ عن الإعداد للغد. وإذا كانت استراتيجية ردود الفعل حاضرة في إنتاج أكثر المتحولين إلى الإسلام من الجيل نفسه، منير شفيق وعمارة والبشري والمسيري مثلا، إلا أنها كانت أقل كثيرا من مثيلاتها عند عباس وصدّيقي وكشك وجارودي وعادل حسين وصافيناز كاظم، على سبيل المثال لا الحصر. وربما كان ذلك راجعا لممارسة المجموعة الأخيرة العمل الصحفي؛ الذي ألقى بظلاله على مجمل إنتاجهم، وصبغ وجداناتهم، جنبا إلى جنب مع عدم تخليهم عن القالب/ النسق المعرفي القديم؛ إذ أفرغوه من الأيديولوجيات اليسارية والقوميَّة، وأعادوا ملأه برؤية أيديولوجية للإسلام. رؤية تجعل من الصراع مع "آخر" جوهر وجود "الأنا"... وهي الرؤية التي وجدت لها بيئة خصبة في التجربة التاريخية الإسلامية التي حفلت بالفرق الكلامية. ويبدو أن البيئة الثقافيَّة كانت مُهيئة بدرجة كبيرة لهذه الحالة الصراعيَّة العبثية، إذ عكس جمهرة عريضة من الإسلاميين، الذين ترعرعوا بعيدا عن المحضن الأيديولوجي لليسار؛ الوجدان المسموم نفسه، وبددوا أعمارهم في هذا الهُراء، بدءا بأنور الجندي وانتهاء بتلميذه حلمي القاعود.

لقد تطوَّرت تلك المعارك واكتسبت ذلك الزخم الهائل بالإعلام، وليس بما تحمله أو تدافع عنه، وكأنها شهوة ظهور محضة ولذَّة شبقيَّة لا تتحقَّق إلا بالمبارزة العلنية. مبارزة أفكار ومقولات نخبويَّة هشَّة لا قيمة لها في الواقع ولا وزن. إنه إن جاز اعتبار العمل الصحفي المعاصر أحد أدوات إفساد المجال الثقافي والدعوي (في الدول المسلمة ما بعد الكولونيالية) من وجهين: الشحن والشحن المضاد، فإن ذلك ينطبق ربما بدرجة أكبر على الإعلام المرئي والمسموع. إذ ينحدر الصراع في نهاية الأمر إلى صراع بين الوسائل الإعلامية على التربُّح بالحشد والتجييش والشحن الديماغوغي العبثي. وسائل تستخدم كل ديباجة لتحقيق هدف القائم عليها في تلاعب صريح بالعقول والمصائر، وكل استدراج لهذه المساحة هو في حقيقة الأمر تبديد للجهد وللوقت. ومهما تذرَّع البعض بالاستخدام "الدعوي" لهذه المنابر الإعلامية، ومنها شبكات التواصل الاجتماعي، فإن شيئا غامضا من أصلها الخلاسي يطفر ويبرُز ولو كان مستخدمها مثل الأفغاني أو محمد عبده أو رشيد رضا! ثمة شيء في هذه الأدوات لا يختزل الرسالة التي تُمرَّر عبرها فحسب ليصير "الوسيط" الإعلامي هو رسالته الحقيقيَّة، بل إنه يشوه الرسالة نفسها ويجرفها لدائرة صراع أحد أهم ضحاياه هم جماهير المسلمين. إنه تأثير أشبه ما يكون بمردود توظيف السلطة المغتَصِبَة في التراث الإسلامي لرؤية مذهبية معينة تخدم مصالحها. إذ يجعل من الوسيط الإعلامي سُلطة حقيقية تكاد تقوم بذاتها. سلطة مطلقة، وإلها يدور معه الحق حيث دار، حتى شرع الغرب مؤخرا بالحديث عن عصر "ما بعد الحقيقة"؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!