قضايا وآراء

ماكرون وذاكرة الحرب الجزائرية

1300x600
يُسجَّل للرئيس الفرنسي الحالي جرأته في التعامل مع الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر، وفي طرق باب أكثر قضاياه حساسية في العلاقات المتوترة بين البلدين. فهو لم يتردد منذ حملته الانتخابية في الحديث عن إعادة المصالحة مع الذاكرة التاريخية لاستعمار بلده للجزائر، ورسم آفاق جديدة، قادرة على ردم الفجوة التي خلفتها ممارسات الاستعمار الطويل في الجزائر (1830-1912)، وتضميد جراحها العميقة التي عزّ على أكثر من نصف قرن من الاستقلال على محوها من الذاكرة الجماعية للجزائريين. ففي سياق هذه الرؤية، تندرج خطوة تجاوب "ماكرون" مع ملف "الحركيين" (les harkis) بإصدار مرسوم رئاسي، نُشر في الجريدة الرسمية، يمنح بموجبه امتيازات استثنائية "للحركيين" المقيمين في فرنسا منذ استقلال الجزائر عام 1962. ولم يقف التجاوب عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى تكريم لفيف منهم وبعض جمعياتهم بمنحهم درجة "جوقة الشرف برتبة فارس"، وترفيع آخرين إلى "درجة الاستحقاق الوطني" برتبة ضابط، وفئة ثالثة برتبة فارس. وقد تزامن هذا مع ذكرى "اليوم الوطني للحركي"، أي 25 أيلول/ سبتمبر من كل سنة، والذي أقرته السلطات الفرنسية منذ استقلال الجزائر سنة 1962، اعترافا منها بالدور الذي لعبه "الحركيون" في دعم وجودها العسكري في الجزائر خلال حرب التحرير الوطنية (1954- 1962).
سياسة ليست غريبة ولا جديدة في سجل تاريخ الاستعمار في بلاد المغرب، فقد دأبت فرنسا إما على تفكيك الوحدة الوطنية لشعوب المنطقة


جدير بالتأكيد أن ما اصطلح على تسميتهم "الحركي أو الحركيين" هم فئة من الجزائريين، اختاروا التجنيد في صفوف الجيش النظام الفرنسي المتواجد في الجزائر لخدمته والعمل إلى جانبه إبان انطلاق حرب التحرير الوطنية عام 1954.. فهم بصريح الوصف جزائريون يحاربون جزائريين فوق بلدهم، أي من صلب أبناء جلدتهم.. والواقع أنها سياسة ليست غريبة ولا جديدة في سجل تاريخ الاستعمار في بلاد المغرب، فقد دأبت فرنسا إما على تفكيك الوحدة الوطنية لشعوب المنطقة، كما حصل عام 1930 حين أجبرت السلطات الفرنسية السلطان المغربي على إصدار الظهير البربري (16 أيار/ مايو 1930) وأخفقت في ذلك، أو حين استقدمت الجنود السنغاليين (la legion) لتوظيفهم في قمع مظاهرات المغاربة ما بين 1953 و1956.. فـ"الحركي أو الحركيون" في نظر الجزائريين فئة جزائرية فضلت التعاون مع المستعمر لقمع مقاومة الحركة الوطنية، من أجل جلاء المستعمر واسترداد السيادة والاستقلال، وهم بهذا عملاء وخونة.. لذلك، ظل موضوع "الحركي أو الحركيين" من القضايا شبه المحرمة، التي يُستبعَدُ الحديثُ عنها في الجزائر بشكل عام ومفتوح، لأسباب تاريخية واجتماعية أهمها الامتدادات الاجتماعية والعائلية لهذه الفئة داخل المجتمع الجزائري.

 

ظل موضوع "الحركي أو الحركيين" من القضايا شبه المحرمة، التي يُستبعَدُ الحديثُ عنها في الجزائر بشكل عام ومفتوح، لأسباب تاريخية واجتماعية


تتحدث الدراسات التاريخية عن عدد هذه الفئة من الجزائريين، وتقدر حجمهم الكمي سنة الإعلان عن الاستقلال (1962) بما يقرب من ستين ألفا (60.000)، بما فيهم عائلاتهم، في حين ذهبت وسائل الإعلام الفرنسية إلى القول بنصف مليون شخص، أما بعض المؤرخين المختصين في تاريخ الجزائر مثل (Charles Robert Ageron)، فيتحدث عن رقم يفوق المئة ألف. يُشار إلى أن إبان خروج فرنسا من الجزائر تطبيقا لـ"أوفاق إيفيان" والإعلان عن الاستقلال في 5 تموز/ يوليو 1962، تخلت فرنسا عما يقرب من 55 ألفا، منهم من تمت تصفيتهم خلال فوران التحرر من قبل الجزائريين، ومنهم من لجأ إلى الفرار، وآخرون غيروا أسماءهم وأماكن إقامتهم، مخافة تعرضهم للقتل أو السجن والتنكيل في أهون الأحوال.

لا شك أن ملف "الحركي أو الحركيين" من أعقد الملفات في العلاقات الفرنسية الجزائرية، وأصعبها على مستوى المعالجة والحل. ودون شك لن تكون مبادرة الرئيس "ماكرون" الإقدام على تكريم لفيف من "الحركيين"، وإعادة الاعتبار إليهم، سهلة ولا ميسرة بالنسبة لآفاق العلاقة بين البلدين.. فالجزائر تعتبر هذا الملف "خطاً أحمر"، غير قابل للمناقشة ولا المساومة، بل لا تريد لهذه الفئة من أبنائها العودة إلى بلدهم في أواخر أعمارهم، فبالأحرى الترخيص لذويهم بدفنهم في تراب بلدهم.. لأن تقدير الجزائريين أن هؤلاء خانوا بلدهم، وساهموا في تعميق مأساة مجتمعهم، في وقت كان النداء الوطني يلزمهم الانتصار للجهاد والثورة ضد المستعمر. وتعتبر فرنسا بالمقابل، أن هؤلاء أسدوا للعلم الفرنسي خدمة في وقت كان في أمسّ الحاجة إليها، وأنهم يستحقون الالتفات إليهم وإلى أوضاعهم وعدم التنكر لهم أو تناسيهم.

 

الجزائر تعتبر هذا الملف "خطاً أحمر"، غير قابل للمناقشة ولا المساومة، بل لا تريد لهذه الفئة من أبنائها العودة إلى بلدهم في أواخر أعمارهم، فبالأحرى الترخيص لذويهم بدفنهم في تراب بلدهم

نحن إذن أمام مفارقة في العلاقات الفرنسية الجزائرية، وقد تتطور إلى أزمة بين البلدين، بل قد تكون لها ظلال على آفاق التعاون بينهما، لا سيما وأن مسار العلاقات لا يؤشر على وجود قدر معقول من التوازن المُثمِر والفعال.. وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من العلاقات العميقة الاقتصادية والسياسية والثقافية الموجودة بين فرنسا والجزائر، ظلت النظرة المتبادلة بين البلدين مشوبة بالكثير من أشكال التوجس والارتياب وضعف الثقة المتبادلة. لذلك، يمكن للمصالحة مع التاريخ الاستعماري لفرنسا في الجزائر أن تساهم في إعادة بناء الثقة بين البلدين، إن هي بُنيت على أسس مغايرة، لعل أولها إدانة ما حصل في الجزائر والاعتذار العلني للجزائريين.. ودون هذه الخطوة التاريخية والشجاعة لن تتحقق المصالحة القادرة على ردم الفجوة العميقة في العلاقات الفرنسية الجزائرية، أي علاقة المستعمِر بالمستَعمَر.