مقالات مختارة

الاستثمار الأجنبي والتحكيم الدولي سلاحان ذوا حدين

1300x600

الأصل في الاستثمار الأجنبي أنه يجلب للبلد الذي يستضيفه منافع كثيرة، على رأسها العملة الأجنبية، والتكنولوجيا الجديدة، والخبرات الفنية والإدارية غير المتوفرة محليا، والفرصة لزيادة معدلات الإنتاج والتشغيل والتصدير والنمو الاقتصادي. 

والأصل أيضا أن اتفاقات الاستثمار الثنائية وما تتضمنه من التزام بآليات وأحكام التحكيم الدولي من أهم محفزات الاستثمار الأجنبي لأنها تمنح المستثمرين الطمأنينة بأن البلد المستضيف لن يتعسف في استخدام سلطاته السيادية في المسائل التجارية.

ولكن من وقت لآخر يحدث ما يذكرنا بأن الاستثمار الأجنبي، إن لم تحسن إدارته وتقدير عواقبه، يمكن أن يتحول إلى سلاح ذي حدين، يضر البلد أكثر مما يفيده، ويلقى على عاتق الدولة بالتزامات وتعويضات فادحة لا يتحمل عواقبها المسئولون بل الشعب الذي يسدد الثمن من مدخراته ومن موارده التي كان يجدر أن تتجه لتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة.

من هذه اللحظات الفارقة حكم التحكيم الدولي الذي صدر ضد مصر منذ أسبوعين لصالح شركة أسبانية بقيمة ملياري دولار أمريكي استنادا لعدم تنفيذ مصر لالتزامها بتوريد الغاز الطبيعي لمصنع الشركة في دمياط.

وبغض النظر عما إذا كانت مصر ستدفع التعويض كاملا أم ستنجح في التفاوض على تخفيضه أم استبداله بالتزامات أخرى، فإن النتيجة تظل مؤسفة وذات عواقب وخيمة. 

ولهذا فليس غريبا أن ترتفع الأصوات المطالبة بإعادة النظر في سياسة الدولة لجذب الاستثمار بل والانسحاب من الاتفاقات الدولية التي تلزم مصر باحترام أحكام التحكيم الدولية.

ولكن هذا رد فعل مبالغ فيه وبالتأكيد يؤدي لنتائج عكسية على الاقتصاد القومي.

فالواقع أن الاستثمار الأجنبي، وما يرتبط به من قبول للتحكيم الدولي، ليس شرا ولا خيرا في حد ذاته، بل يأتي بعوائد سلبية أو إيجابية على أي بلد في العالم بمقدار قدرة هذا البلد على إدارة ملف الاستثمار بحكمة وكفاءة، وتحديد أولوياته بوضوح، وتقديم الحوافز اللازمة لاستقطابه دون تعارض مع مصلحة البلد، ووضع الضوابط التي يلزم على المستثمرين احترامها بوضوح وشفافية، والدخول مع الشركات والمؤسسات العالمية في شراكات واتفاقات متوازنة.

ولكن حينما تسعى الدول لجذب الاستثمار الأجنبي بأي شكل وأي ثمن ودون تقدير لميزان التكلفة والعائد، وحينما يكون معيار النجاح الوحيد لدى متخذي القرار والإعلام والجهات الرقابية والبرلمانية هو حجم الاستثمار الوافد إلى البلد دون تقدير للأثر الذي يحدثه، فإن هذا يهدد باستنزاف الموارد الطبيعية بأثمان بخسة، أو تصدير المعادن والثروات دون تحقيق قيمة مضافة، أو تلويث البيئة وتدمير الشواطئ والأنهار، أو استغلال العمالة المحلية دون مقابل عادل، أو التضحية بعوائد جمركية وضريبية بلا مبرر، أو التعاقد مع المستثمرين بشروط مجحفة وغير مدروسة تكون نهايتها التحكيم والتعويض.

لهذا فإن الحوار العالمي عن الاستثمار لم يعد معنيا بمجرد مقارنة الدول من حيث حجم الاستثمار الأجنبي الذي تستقطبه، وإنما بنوعية هذا الاستثمار واستدامته وما يضيفه لاقتصاد البلد من أجل تقدير إن كان في نهاية المطاف مفيدا أم ضارا. 

وهذا ليس خطابا متطرفا أو خياليا، بل تتصدره مؤسسات ومعاهد رصينة وجادة، أذكر منها على سبيل المثال مركز القانون الدولي بروما (IDLO) ومركز كولومبيا للاستثمار بالمستدام بجامعة كولومبيا بمدينة نيويورك (CCSD) ومنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية بمدينة جنيف (UNCTAD) ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بمدينة باريس (OECD)، وكلها تنصح البلدان النامية بتبني سياسات استثمارية متوازنة ومستدامة.

الحكم على مصر بتعويض قدره خمسة وثلاثين مليار جنيه مصري لا ينبغي أن يمر مرور الكرام، ولا أن يتوقف عند حد إبداء الغضب والحسرة، وبالتأكيد لا يكون مناسبة للتراجع عن الاهتمام بجذب وتشجيع الاستثمار الأجنبي والمحلي. ولكنه يجب أن يكون مناسبة للتفكير والحوار حول مستقبل الاستثمار الأجنبي في مصر وضرورة بلورة سياسة أكثر اتساعا وعمقا من مجرد السعي لجذب الاستثمار بأي شروط وأية تكلفة، سياسة تضع الصالح العام الاقتصادي في الصدارة وتدرك أن معادلة الاستثمار
لا تنجح إلا إذا حققت مصلحة المستثمر والبلد معا.

عن صحيفة الشروق المصرية