قضايا وآراء

قراءة في الموقف التركي من معركة إدلب

1300x600
بدا الموقف التركي من معركة إدلب وكأنه يختصر الموقف التركي من القضية السورية - العادلة بشكل عام - حيث رفض محاربة الإرهابيين بإرهابيين، ورفض إحراق تدمير البشر والحجر بحجة محاربتهم، وعدم التخلي عن مساعدة اللاجئين والنازحين، مع رفض تحمّل مسؤولية أي هجرة واسعة جديدة من المدينة، واعتبار أن الحلّ الجذري للقضية السورية العادلة يكمن في الحلّ السياسي العادل وفق إعلان جنيف بدون تلاعب أو تحايل، طبعاً دون نظام الأسد الذي يمثّل السبب وأصل المرض لكل الأعراض والأزمات الحالية، بما فيها التنظيمات الإرهابية.

منذ انتهاء معركتي أو جريمتي الغوطة ودرعا، تصاعد التهديد السياسي الإعلامي الميداني من الاحتلالين الروس الإيراني وأداتهم - النظام - بفتح معركة إدلب بحجة محاربة جبهة النصرة، ارتفع أيضاً الصوت التركي محذراً ورافضاً، ومن كبار المسؤولين المعنيين، تحديداً الرئيس رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية شاويش أوغلو، ووزير الدفاع خلوصي أكار، وحتى الداخلية سليمان صولو. ويمكن تلخيص أو عرض أسس الموقف التركي على النحو التالي:

الرئيس أردوغان حذر صراحة أكثر من مرة أن أي معركة يفتحها حلفاء النظام في إدلب ستعني نهاية عملية آستانة، حتى تغلق الباب أمام الحل السياسي في سوريا، علماً أن تركيا تكاد تكون الشريك أو على الأقل المحاور الوحيد للاحتلال الروسي في سوريا، والساعي والباحث خلف محاورين وشركاء من أجل حلّ سياسي يفرض تصوراته ويحقق مصالحه، ويخرجه أو ينقذه من التورط أو الغرق أكثر في الوحل السوري، وهي المعادلة الصعبة وحتى المستحيلة.

أما في التفاصيل، فقد أكدت تركيا دائماً أن وجود جماعات أو حركات مصنفة إرهابياً يجب أن لا يكون ذريعة للمعركة ضد ثلاثة ملايين مواطن، ثلثهم لاجئون أصلاً، خاصة أن النماذج أو المعارك السابقة للنظام وحلفائه اتبعت الخيار (النموذج) الشيشاني وذهنية الأرض المحروقة؛ بحجة محاربة الإرهاب.

تركيا طلبت إعطاءها الوقت اللازم للقيام بتفيكيك الحركات والتنظيمات الإرهابية بأقل ضرر ممكن على الناس ومدينة إدلب والمحافظة كلها، كما لإبقاء النافذة مفتوحة أمام الحلّ السياسي وأمام عملية أستانة وفكرة المناطق الآمنة وخفض التصعيد التي تعتبر إدلب منطقة أساسية ومركزية فيها.

في سياق محاربة الإرهاب، قدمت تركيا خطط عملياتية محددة، آخرها في قمة إيران الأخيرة الجمعة الماضية. الخطط تتعلق بإلقاء الجميع لأسلحتهم، وتشكيل جيش يقوم بمهام شرطية لحفظ النظام برعاية تركية، مع ترحيل المتهمين بالإرهاب إلى مناطق درع الفرات والبقاء تحت مراقبة تركية، مع الانفتاح على فكرة ترحيل الأجانب منهم إلى بلادهم الأصلية.

في الجانب التركي أيضاً، ثمة تركيز على عدم أهلية النظام لمحاربة الإرهاب كونه يمثل السبب الرئيس لظهور الجماعات الإرهابية، التي كانت (كما قال الرئيس أردوغان في مقال "وول ستريت جورنال") النتيجة وليس السبب للواقع الحالي في سوريا، مع التأكيد دائماً على استغلاله فكرة محاربة الإرهاب للتنكيل بخصومه، بخاصّة المعتدلين منهم، وتدمير قراهم ومدنهم لإجبارهم على الرحيل واللجوء أو الاستسلام، ما يعني إبقاء جذوة الإرهاب والقضاء عملياً على أي فرصة لحل سياسي عاجل ومستدام.

ثمة نقطة أساسية مترادفة مع الحلّ السياسي في سوريا، يركز عليها الخطاب التركي دائماً، وتتعلق باللاجئين، حيث أن أي معركة أو جريمة جديدة وفق ممارسات النظام وحلفائه ستؤدي حتماً إلى موجة هجرة ولجوء واسعة إلى تركيا، التي تحتضن أصلاً ثلاثة ملايين ونصف لاجئ سوري، وهي ليس بوارد ولن تكون قادرة على تحمل أي أعباء إضافية مع تخلي المجتمع الدولي عنها وتركها وحدها في مواجهة تداعيات أو تطورات الثورة السورية، مع سعي النظام لتحويلها إلى حرب داخلية، وحتى قبول الاحتلالات والوصايات من أجل طمس الحقيقة ثورة السوريين ضده. وكما قال وزير الداخلية التركي سليمان صولو، فإن تركيا لن تتحمل مسؤولية أي هجرة جديدة، ولكن لن تتخلى عن واجباتها الإنسانية، وبمعنى أنها لن تتوانى عن تقديم المساعدة، ولكنها لن تمنعهم من الوصول أو محاولة الوصول إلى أوروبا، كون معركة إدلب خارح روحية وجوهر التفاهم مع الاتحاد الأوروبي.

الخطاب التركي لم يتوقف لحظة عن استصراخ المجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه من أجل الضغط على روسيا وحلفاء النظام، والامتناع عن فتح معركة إدلب، وبدا الخطاب موجهاً أساساً إلى الولايات المتحدة وأوروبا، ومع التمنّي بتغيير الموقف الأمريكي ومغادرته فكرة رفض استخدام السلاح الكيماوي والاكتفاء بالسلاح التقليدي لقتل المدنيين، بينما يبدو التعويل تركياً أكثر على أوروبا، نتيجة التقارب السياسي الأخير معها، كما نتيحة التفهّم الأوروبي للتداعيات السلبية للمعركة، ليس فقط على نافذة أو فرصة الحلّ السياسي، ولكن على الأمن في أوروبا، وخلق مئات بل آلاف الإرهابيين الجدد، كما على موجات إضافية من اللاجئين لن تستطيع تركيا كبحها أو منعها.

على غير عادته، وللمرة الثانية في أقل من شهر، كتب الرئيس أردوغان الثلاثاء مقالاً في صحيفة "وول ستريت جورنال" بعد مقال "نيويورك تايمز" الشهر الماضي. يمكن ولو بشكل عام وضع المقالين في سياق واحد، فالأول ركز على حال علاقات التركية الأمريكية من أجل السلام والاستقرار في المنطقة، ورفض السياسات الأمريكية الخاطئة التي كانت سبباً رئيسياً في تسليم سوريا لإيران وروسيا وبقاء النظام حتى الآن، والتعاطي مع إرهابيين للهرب من الحسم، والتعاطي مع الممثلين الحقيقيين للشعب السوري حتى لو كانوا ذوي اتجاهات إسلامية. المقال الثاني يضع الجميع أمام مسؤولياته لمنع معركة إدلب من أجل تحقيق نفس الأهداف، وعدم إبقاء تركيا وحدها في المربع الأخلاقي السياسي التاريخي الصحيح في مواجهة الإرهاب، ودعم المطالب العادلة للشعب السوري الثائر في مواجهة النظام الذي يمثل السبب والجذر لكل الأزمات في سوريا، وحتى في المنطقة.

ثمة أمر مهم في معركة إدلب يتعلق بالموقف الروسي، ولكن له علاقة أو جانب متعلق بالموقف التركي من الثورة السورية، الذي رفض التساوق مع أي حلول أو طروحات مجحفة بالشعب الثائر ومطالبه العادلة. ومعركة إدلب - في حالة حدوثها - تمثل هروب إلى الأمام من جانب روسيا التي رغم احتلاها لنصف الأراضي السورية، إلا أنها عجزت عن التعبير سياسياً عن ذلك أو فرض تسوية على الشعب السوري. وبالضرورة، فإن ما لم يتحقق بالاحتلال لن يتحقق بالمزيد منه، وحتى لو أعادت روسيا احتلال البلد كله، فلن تكون تسوية أو إعادة إعمار أو عودة للاجئين أو تعويما للنظام في غياب حلّ سياسي عادل بروحية أو مرجعية جنيف، كما بالإقرار بمفهموم قاعدة أن لا مكان للنظام العصابة في مستقبل سوريا.

عموماً، أثبت الموقف العام من معركة إدلب، وبتفاصيله ومحدداته، أن تركيا تدافع عن أمنها ومصالحها الحيوية المتماهية إلى حد كبير مع مصالح الشعب السوري، كون أنقرة تفكر بعقل أكثري وحدوي جامع، وليس أقلويا تقسيميا كما تفعل طهران، واعتبار الرئيس أردوغان صراحة وعلناً أمام بوتين وروحاني أن إدلب تؤثر على الأمن القومي، وأن تركيا ستدافع عن مصالحها كما ينبغي. والحديث عن إلغاء أو تأجيل معركة إدلب، والاستنفار الدولى ضدها، يمثل نجاحاً للسياسة والدبلوماسية التركية واقتناعاً بفكرتها القائلة بأن المعركة ستكون لها تداعيات سلبية حتى على الاحتلال الروسي نفسه، وبالتاكيد على الواقع الأمني والجيوسياسي في المنطقة.