كتاب عربي 21

إشكالات ما بعد الاستبداد.. العلاقات الإسلامية المسيحية

1300x600
كانت الكلمة الأبرز عقب أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، التي تحل ذكراها: "لماذا يكرهوننا؟". وربما استقى المضطهدون أو المتضررون في أي بقعة من العالم هذه الكلمة كأساس للتعبير عن مظلمتهم أو تضررهم. والاضطهاد تعبر به الأقليات - غالبا - عن مظلمتها، وإذا كان وصف "الأقليات" لا يعني الدونية بقدر ما هو توصيف طبيعي لجماعة عرقية أو دينية أو ثقافية، فقد يعتبره البعض في الحالة المصرية وصفا دونيّاً لذا آثرنا الابتعاد عنه.

وإذا كان قد مرّ أكثر من عامين منذ كتابة خمس حلقات تحت نفس العنوان في هذا المكان الكريم، فقد دَعَتْ الحاجة إلى طرق باب إشكال يمس النسيج المجتمعي، وقد تضرر كثيرا بفعل ممارسات أطرافه المعنيّة برعايته وصيانته "الدولة، والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية بشقّيْها الأهلي والرسمي"، وحينها كتبتُ: "ما يقرره الواقع على مدى الزمان أن الاستبداد الذي يستشري في المجتمعات يسير في كل لحظة من لحظات وجوده إلى ساعة فنائه وانقضائه، وإذا تَخَلّل تلك الفترات استتباب للحكم وتثبيت لأركانه، فإن ذلك مُنْقَضّ لا محالة. فإشكال الاستبداد في فترة وجوده وبالتحديد في طولها؛ لأن ما يترتب على بقائه يحتاج لحينٍ حتى يذهب أثره، أما ذات الاستبداد فإلى زوال لا ريب؛ لأن النفوس مهما ذُلّت فإنها مَجْبُولة على الانتصاف من الاعتساف. فإذا كان الاستبداد زائلا، وما خلّفه باقيا، تعيّن النظر إلى وجوه إفساده وكيفية إزالة ما أحدثه من ضرر".

عقب اشتعال أحداث قرية "دمشاو هاشم" بمحافظة المنيا في صعيد مصر، أصدر أسقف عام المنيا وأبو قرقاص الأنبا مكاريوس بيانا ربما يصلح لكشف ما ورائيات أحداث العنف الديني بشكل عام، جاء فيه: "فقد تواردت أنباء منذ عدة أيام عن عزم المتطرفين القيام بالهجوم وتم إبلاغ الجهات المعنية، ولكن قوات الأمن وصلت إلى القرية بعد قيام المتطرفين بإطلاق الهتافات التحريضية ثم التعديات المذكورة.. كان المتطرفون في قرية مجاورة تُدعى عزبة سلطان، قد فعلوا نفس الشيء منذ أسابيع، وبسبب عدم الردع انتقلت العدوى إلى هذه القرية.. ومن ثم، فاحتمال امتداد ذلك إلى قرى أخرى وارد، ما لم يتم عقاب المحرضين وردع المعتدين.. وتعرضت "القرية" لهجمات مماثلة عام 2005، وتركت حينئذ عدة عائلات قبطية القرية، بسبب شدة ما عانته ولم يُعاقب وقتها أحد المعتدين".

ما يكشفه البيان في بعض تفاصيله أن هناك تغاضيا من قبل الجهات المعنيّة في الدولة عن القيام بدورها في منع الاشتباكات قبل حصولها، أو محاسبة الجناة بعد ارتكابهم للفعل المخالف للقانون. وربما يُفسّر ذلك بوجود رغبة لدى الدولة في إبقاء الأقباط في حالة استنفار دائم؛ واحتياج للنظام السياسي الذي يستخدمهم سياسيا.

إن الأنظمة الاستبدادية معنيّة بتفكيك لُحمة المجتمعات وتحويلها إلى جزر منعزلة، "ويلوذ الناس بالطوائف" كما يعبّر ابن خلدون، وهذه آية غياب القيم لدى جماعة الحكم، وارتفاع حس انتفاعها الذاتي على الواجب الوطني، لذا ينبغي للحريصين على مصالح أوطانهم أن يتحركوا لتحقيق الوئام في المجتمع دون الأخذ في الاعتبار مشاركة نظام الحكم المستبد في تحقيقه، إذ الغايات الوطنية تختلف عن غايات المصلحة الضيقة.

لو كانت هناك نصيحة صادقة للأقباط في مصر، فهي عدم الاصطفاف مع السلطات الاستبدادية أيا كان مصدر الاستبداد ومرجعيته. إذ المستبد يستعدي المجتمع، وينتقل الاستعداء لسائر مساعديه، وهذا ما شهدناه في ثورة 2011 عندما توجه السخط ضد أداة الاستبداد الرئيسية "الجهاز الشرطي". والنظام الحالي وسّع دائرة المتورطين معه، من مؤسسات ومكوّنات ثقافية ودينية، وحالة التماسك المجتمعي ستمنع بالضرورة أي اعتداء على الغير لمجرد الدين، ولو ظهر صوت يدعو للفتنة ستخمده أصوات أخرى، إلا أن التماسك المجتمعي لا يجري في ظل استقواء طرف ما بنظام مستبد لتحقيق مكاسب "وقتيّة".

ولو كانت هناك في المقابل نصيحة لقيادات التيارات الدينية "الرسمية والأهلية"، فهي السعي الحثيث لطمأنة وإزالة مخاوف الأقباط التي يزرعها النظام عبر إعلامه ومروّجي الإشاعات التابعين له، ومحاولة تقليل فجوة المخاوف، بدلا من الاكتفاء بخطاب إعلامي لا يُحدث فرقا في المجتمع.

إن التحوّل الذي جرى بالمجتمع يستدعي إعلان الطوارئ "الأهلية" حتى يتوقف التدهور في العلاقة بين الطرفين، ولا يمكن قبول اضطهاد أحد بناء على دينه، بل يتوجه العقاب للمسيء دون النظر لأي شيء سوى الجريمة أو الخطأ. وقد احتوى هذا الوطن الطرفين على مدار ما يزيد عن أربعة عشر قرنا، رغم وجود خلافات أمكن حلّها، وبَدَا هذا القبول في التاريخ الحديث بتخرّج حسين باشا رشدي وعبد الخالق باشا ثروت من مدارس قبطية، وصارا فيما بعد رئيسين للوزارة في العهد الملكي. وأذكر جيدا تلك المرأة لطيفة العِشْرة التي صادقت أمي على مدار أربعين عاما، تشتري معها حلوى المولد النبوي لأبنائها، وتتصل بها مهنئة في الأعياد، وتلقى كذلك المِثْل في المعاملة.

لا أذكر أن هناك قبطيا كان يتحرّج من رد سلام المسلمين، ولا مسلما كان يتحرّج من إلقاء تحية غير السلام على الأقباط. أما الآن، فأصبح السلام يقابل بالسكوت، والتحيات الأخرى تُقابل برد سلام لم يُلقَ، في حالة واضحة "للتأكيد على الاختلاف"، كما قال أستاذنا د. رفيق حبيب، وأصبحت هناك حالة واضحة من اهتمام المؤسسات الدينية "الخدمية" برعاية أبناء الطائفة، وقبول حالات أخرى لذرّ الرماد في العيون، وأصبحت أسماء المؤسسات الأهلية الخدمية الدينية تؤكد على الاختلاف، وأصبحت أسماء الأبناء والبنات كذلك، ليقوم الطرفان على إبراز الاختلاف وتضخيمه بدلا من احتوائه.

إن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر تمر بمنعرج شديد الخطورة، لم تشهد مصر حتى أثناء الاحتلال الفرنسي والدور الخبيث للمعلم يعقوب، ولا أثناء الاحتلال الإنجليزي، فتم احتواء التوترات سريعا رغم خطورة الوقائع. وشهدت تلك الفترة أداء قبطيا وإسلاميا راقيا لضبط التوترات قدر المستطاع، وإخماد الأصوات الطائفية، لكن نُظم الاستبداد منذ 1952 هدمت بناء المواطنة رويدا رويدا، وأذكت الخلافات إلى الحد الذي جعل قيادات أمنية تتواصل مع قيادات دينية لتحرّضهم على الطرف المخالف دينيا.

لا بديل أمام الجميع سوى القبول بحياة مشتركة تتوافق حول أساسيات العلاقة بنصوص قانونية لا لَبْس فيها، ووقوف الأطراف على قدم المساواة أمام النصوص القانونية، واسترضاء كل الأطراف بالحدود المعقولة والمقبولة، والضغط على نظم الاستبداد لتحقيق ذلك.