كتاب عربي 21

الفلسطينيون: فرادة المعاناة واحتكارها.. مقدّمات للفهم

1300x600

(1)


لم يكن أحد من العرب، وهو جالس أمام شاشات التلفزة في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ليرى عذابات الفلسطينيين هيّنة، ولم يتحدث أحد في الانتفاضة الفلسطينية الثانية عن الاحتلال الإسرائيلي بصفته رحيما، ولم تكن الصورة الواقعية التي قدّمها مسلسل التغريبة الفلسطينية عن شعب من لحم ودم، لتنزع عن الفلسطينيين معاناتهم أو لتمنح الاحتلال الإسرائيلي صورة أخرى، غير تلك الصورة التي يستحقها احتلال مجرم في ذاته وتكوينه وطبيعته، وذلك بصرف النظر عن أيّ خصوصية للقضية الفلسطينية.

حتما لا يخلو الأمر من شذوذات، لكنها، كما يقال دائما، هي تلك التي تؤكد القاعدة. وبما أنّ الجميع من لحم ودم، فإن التداخلات العربية مع القضية الفلسطينية لم تكن لتخلو من ضغائن، لا تبلغ، مهما تملكها العنف وسوء الفهم، نفي المعاناة عن الفلسطينيين، أو التقليل من خطر الاحتلال الإسرائيلي، وهذا بصرف النظر عن الموقف الحقيقي للنظام الإقليمي العربي من الاحتلال الإسرائيلي.

ومع أن بعض البلاد العربية في العقدين السابقين على الثورات العربية، وقبل ذلك، شهدت انتفاضات أو حروبا أهلية، أو عانت من الاستعمار، ومع أنها كانت محكومة طول الوقت بأنظمة متوحشة، إلا أن المشهد العام كان يخلو غالبا من شاشات أخرى تعرض أشكالا أخرى من المعاناة العربية.

القصد أنّ المعاناة الفلسطينية، قائمة في ذاتها، ولا تحتاج لفحص صدقيتها أو عمقها أو درجتها معاناة أخرى تُقارن بها، فما كان قبل الثورات العربية ظلّ موجودا بعدها، سواء معاناة الفلسطينيين، أو الاحتلال الإسرائيلي بطبيعته الإجرامية، وأي معاناة أخرى سبّبتها سياسات هذا النظام العربي أو ذاك، هي معاناة قائمة في ذاتها، سواء وُجدت القضية الفلسطينية أم لم توجد. فالمقارنة لهذا الغرض لا تسيء للموجوع فحسب، وتشكّك في إحساسه الغريزي بالألم، ولكنها أيضا تمسّ بجوهر أي قضية عادلة، فلا تخلو قضية من أوجه خاصّة بها، كما أن الألم، أو درجة البطش عَرَضٌ لجوهر قَبْلِّي، هو الذي يحدّد طبيعة الخصم، كالظلم مثلا.

(2)


على أيّ حال، ومهما كانت تلك المقارنات ووجاهتها وأهدافها، إذ هي لا تصدر من مشكاة واحدة، وبعضها يمكن فهمه أو قبوله أو النقاش معه، فإنّ مقدّمات مهمّة تغيب عند عقد تلك المقارنات، أو تقييم استجابة الفلسطينيين لبعض القضايا العربية الجارية.

أول تلك المقدمات هي عمر القضية الفلسطينية الطويل، وما يرتبط به من صياغة الشخصية الفلسطينية. الحديث عن عمر القضية الفلسطينية ليس حديثا بقصد المقارنة أو المفاضلة، وإنما لأهميته في الكشف عن الكيفيات التي تبلورت فيها هوية الفلسطينيين وشخصيتهم. فالفلسطينيون، دون بقية العرب، لم ينالوا دولة، ولم يحظوا باستقلال، وشعروا دائما وحتى منذ عهد الانتداب، وقبل النكبة، باختلافهم عن بقية العرب، وبعد ذلك ظلّت الشخصية الفلسطينية تتشكّل بفضل عاملين: الاحتلال، ثم علاقة العرب بالفلسطينيين وقضيتهم.

صحيح أن بلادا عربية أخرى قاست احتلالا طويلا فيه بعض أوجه شبه من الاحتلال الإسرائيلي، لكنها كلها نالت استقلالها قبل هزيمة العام 1967، بينما فلسطين وحتى اللحظة ما تزال تكابد الاحتلال الذي يقال عنه إنّه آخر احتلال كلاسيكي في الأزمنة الحديثة.

الفكرة هنا أن شخصية تشكّلت طوال مئة عام، ومرّت بهذا القدر الهائل من الأحداث الضخمة، لا يجوز لنا أن نتوقع منها إلا أن تتمركز حول قضيتها، فلا يمكن لهذه الشخصية أن تعيد تشكيل ذاتها في سنة أو سنتين أو عشر سنوات بصورة تلقائية، هذا محال حين الحديث عن مجتمعات تبلورت بفضل آلاف العوامل وعلى طول عقود متراكمة.

لا يعني التمركز حول القضية، إنكار معاناة الآخرين، أو العجز عن الإحساس بمعاناة الآخرين، ولكنه يعني منح الأولوية الكاملة لهذه القضية التي لم تبدأ أمس. وهذه الأولية ليست ناجمة عن فرادة القضية الفلسطينية طوال العقود الماضية فحسب، وإنما لإحساس الفلسطينيين العميق طوال تلك العقود بالخذلان، ولتشكّل هويتهم على أسس مناقضة للهويات العربية القطرية، وللدور العربي في التأسيس لقضيتهم، أي هزيمتي 48 و67، ثم ما ذاقه اللاجئ الفلسطيني في ظروفه العربية، وما تجشّمته مقاومة الفلسطينيين في تلك الظروف عينها.. هذه كلها عوامل متراكمة وعميقة لا يمكن لنا أن نتوقع كفّها فجأة عن العمل وكأنّها لم تكن موجودة أبدا!

ثاني تلك المقدمات، كيفية النظر للشعب الفلسطيني، فهو كأيّ شعب آخر في هذه الدنيا؛ يتكون من مجموعات متعددة ضمن تصنيفات بالغة التنوع، فالفلسطينيون منقسمون جغرافيّا منذ النكبة، ومحرومون من التواصل الطبيعي، وبين هذه الجغرافيات مجتمعات متباينة، وداخل كل جغرافيا مجتمعات أخرى، سواء قَبْلِية طبيعية، أو بفعل الاستعمار، أو بفعل الاختلاف السياسي والأيديولوجي.

بالتالي، تتعدد مواقف الفلسطينيين تجاه الأحداث والأزمات العربية، ولا يجمع الفلسطينيون على موقف واحد، تماما كما لا يجمع أصحاب أي قضية عربية على موقف واحد إزاء قضيتهم تلك. فلو أخذنا الثورات العربية مثالا، فإنّ أي ثورة منها تتعرض لانقسامات داخلية حادّة، وحين توسيع دائرة الملاحظة يظهر بجلاء عمق الانقسام وحجمه على مستوى الجغرافيا الواحدة بين ناسها ومجتمعاتها.

الفلسطينيون أنفسهم منقسمون انقساما عميقا في مسألتهم الداخلية، ولن نتوقع منهم إلا أن يكونوا كذلك في أي مسألة عربية أخرى، وإن كانت دائمة مسألة الاحتلال الأجنبي تحظى بدرجة أعلى من الإجماع مما هو عليه الحال في أي مسألة داخلية، كالثورة أو الحرب الأهلية وما شابه، وهذه ليست مشكلة الفلسطينيين، وإنما هذه هي طبيعة المجتمعات عموما.

إن الشخصية الفلسطينية التي تبلورت بفضل عدد من العوامل، لا يعني قبولها للتنميط الاختزالي الذي كثيرا ما يقاسيه الفلسطينيون، سواء في دعاية مبرمجة من بعض الأنظمة العربية، أو نتيجة انطباعات تخلّقت في رحم بعض الظروف، كالقول إن الفلسطينيين باعوا أرضهم، أو إنهم ناكرو الجميل، أو إنهم حاقدون على العرب، أو إنهم يحتكرون المعاناة، أو إنهم كلهم مع هذا الطرف ضد ذاك، وهكذا..

ثالث تلك المقدمات؛ اختلال موازين القوى، ولا شكّ أن الشعب الذي يكابد الاحتلال منذ مئة عام، ليس هو المسؤول عن ذلك الاختلال الذي يدفع الفلسطينيين للبحث عن علاقات وتحالفات ومخارج؛ للتخلص من هذا الاحتلال الطويل، أو للاستناد إلى ما يكفي للصمود، دون أن يعني ذلك أن كلّ رهانات الفرقاء الفلسطينيين كانت صحيحة، ولكنه حديث للتفسير لا للتصويب.

يجدر التذكير هنا بأن الظروف العربية دائمة الرداءة هي جزء أصيل من هذا الاختلال الفادح والفاضح في موازين القوى، وطالما أنّ الأمر كذلك، فلا بد وألا تكون مواقف جميع الفلسطينيين على مسطرة عربية واحدة، فالفلسطينيون هم من ضحايا الرداءة العربية، تماما كما هو الحال مع الثورات العربية التي تكابد اختلال موازين القوى على نحو فتك بوحدتها، أو اضطر بعض أطرافها لداعمين وممولين يُعدّون خصوما أو أعداء لأطراف عربية أخرى، وهكذا.