كتاب عربي 21

تركيا والغرب الجيوسياسي

1300x600

سؤال "هل تركيا لا تزال جزءا من الغرب؟"، سؤال ينتمي إلى جيوسياسة القرن العشرين..

 

أما الآن، فقد أضحى بلا معنى. في الوقت الذي نتناقش فيه حول ما إذا كانت بريطانيا ما بعد بريكسيت لا تزال جزءا من أوروبا، وبينما تعمل الولايات المتحدة على تقويض المنظومة الغربية السياسية والأمنية والاقتصادية التي ساعدت في إنشائها على مدى عقود، باتت القضية المطروحة للتساؤل ليس "من ينتمي إلى المعسكر الغربي" وإنما ما إذا كان "الغرب الجيوسياسي" ما زال موجوداً.

 

فنحن نعيش اليوم في مرحلة مثقلة بالمصاعب الكأداء حتى في ما يتعلق بإدراك الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للغرب. ولذلك لا ينبغي تقييم تفضيلات السياسة الخارجية لتركيا واختياراتها الجيوسياسية في ضوء تصنيفات محاور ومعسكرات القرن العشرين. 

نحن في حقبة جديدة، ولكن القرن العشرين لم ينته سياسياً. هذه مرحلة انتقالية بامتياز. منظماتنا الكونية السياسية والاقتصادية ومعظم الدول التي تتشكل منها الأمم المتحدة اليوم إنما أتت إلى الوجود بعد الحرب العالمية الثانية.

 

كما أن الغرب الجيوسياسي والجمهورية التركية الحديثة تشكلا في القرن العشرين. وأعيد تشكيل حدود تركيا ما بعد الحرب العالمية الأولى وأعيد ترسيم معالم علاقاتها السياسية مع الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.

 

ففي القرن الحادي والعشرين بات السؤال عن ما إذا ما زالت تركيا جزءاً من المعسكر الغربي، غاية في التعقيد بحيث تصعب الإجابة عنه. إنه السؤال الذي بدأ الجدل حوله يتكثف ما بعد عام 2002. 

عندما رفضت تركيا المشاركة في غزو العراق في عام 2003 كانت عناوين الصحف والبرامج الإخبارية في الغرب تتحدث عن "انتقال تركيا من محور إلى محور". حينها فاجأت معارضة تركيا للولايات المتحدة، أضخم قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، كافة الأطراف المعنية. وعلى النقيض من الزعم بأن تركيا تحركت بعيداً عن توجهها الغربي، فقد بدأت تركيا حينها عملية طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وبدأت المفاوضات في عام 2004.

 

لو نُظر إلى الأمر بعناية، فإن تلك المساحات والمواضيع التي جمعت تركيا والغرب معاً وأثمرت التعاون فيما بينهما في الماضي ما زالت قائمة في يومنا هذا. 

بدلاً من البحث عن مذنبين في تركيا أو في الغرب لتحميلهم المسؤولية عن الفترة الصعبة التي نمر بها في هذه اللحظة، فإنه يتوجب علينا أن نأخذ بالحسبان الركود السياسي الكوني الذي حصل بعد الثورات العربية والتي كان لها عظيم الأثر في العلاقات التركية الأمريكية. 

وعلى النقيض من خطاب إدارة أوباما، جاء رد الولايات المتحدة منحازاً لصالح الحفاظ على الوضع الإقليمي القائم في ضوء سلوك لا يراعي المطالب الشعبية بالتغيير في الشرق الأوسط.

 

وثبت أن الأخطاء الجسيمة، وخاصة تلك التي ارتكبت في سوريا والعراق، كانت تكلفتها باهظة ليس فقط بالنسبة للمنطقة بل وبالنسبة للعالم أجمع. 

وهذا ما تسبب، لا مفر، في توتير العلاقات بين أنقرة وواشنطن. وبينما ملأت روسيا الفراغ الجيوسياسي فقد غادرت الولايات المتحدة المنطقة، وبدأت فترة جديدة ولكن من المستبعد أن تكون دائمة.

 

وتلك هي الفترة التي شهدت ارتقاء العلاقات التركية الروسية إلى مستوى آخر.

 

وعندما ضربت أزمة الهجرة والإرهاب تركيا وبلدانا أخرى، بما في ذلك البلدان الأوروبية، بدأت تركيا والغرب معاً في إدراك تكاليف إهمال هذه القضايا ذات الصلة بالسياسة التي يتم انتهاجها.

 

بدلاً من التفاعل بهدوء مع هذه الأزمة تم اتخاذ العديد من الخطوات دون أدنى مراعاة للحساسيات التركية. 

وما لبث أن زاد الطين بلة تعرض تركيا وأوروبا لزلزالين سياسيين خلال شهر واحد في عام 2016. 

أما الزلزال الأول فكان القرار البريطاني بمغادرة الاتحاد الأوروبي، والذي لم يزلزل أوروبا فحسب بل أثار علامات استفهام حول فكرة الاتحاد الأوروبي.

 

حينها كان المئات من المهاجرين يموتون غرقاً في مياه بحر إيجة والبحر المتوسط كل يوم، وكان مئات الألوف من المهاجرين الآخرين يسعون للوصول إلى القارة الأوروبية.

 

وكان لتداعيات قضية بريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) أثر جيوسياسي هائل. 

ثم ضرب زلزال سياسي آخر تركيا بعد أسابيع قليلة – في وقت كانت البلاد فيه منهمكة في مقارعة إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية وحزب العمال الكردستاني. كان ذلك الزلزال هو المحاولة الانقلابية الفاشلة في الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016، والتي تحمل القيادة التركية فتح الله غولن ومؤيديه المسؤولية عنها.

 

لقد غير ذلك الزلزال أجندة تركيا السياسية وأولوياتها بشكل راديكالي. وبسبب رد الفعل الواهن من قبل أوروبا وواشنطن على المحاولة الانقلابية فقد زاد التوتر في علاقة تركيا بهما.

 

مر عامان على تلك المحاولة الفاشلة، والآن حان الوقت بعد الانتخابات الأخيرة لأن تتطلع البلدان الأوروبية وتركيا إلى الأمام وتبحثا عن أجندة إيجابية. 

وبغض النظر عن الصعود والهبوط في العلاقة، فإن التأمل في الاعتماد المتبادل تاريخياً وجغرافياً وسكانياً واقتصادياً بين تركيا وأوروبا يكفي حافزاً لإيجاد أجندة إيجابية.

 

علينا أن نعي أن قراءة العلاقات التركية الغربية من خلال عدسة جيوسياسة تعود إلى القرن العشرين لا طائل منها.

 

لقد أكل الدهر وشرب على عالم من المعسكرات والمحاور البائدة. ولا يمكن التأسيس لعلاقات جديدة بين تركيا والغرب إلا من خلال الاعتماد المتبادل في صيغته الراهنة.