قضايا وآراء

هل بقي للدين ما يضيفه للإنسانية؟

1300x600
يقوم عماد النظرة المادية المنكرة لإلهية الدين على أن الدين نشأ في سياق تاريخي بدافع خوف الإنسان، فالخوف أول أمهات الآلة، حسبما جاء في موسوعة قصة الحضارة، إذ كان الإنسان في الحياة البدائية خائفاً من الموت والمرض فاخترع آلهةً يلجأ إليها، كما أنه في ظل سيادة الجهل وعدم قدرة الإنسان على تفسير الظواهر الطبيعية، نشأت الأساطير والتفسير الغيبي للألغاز، وتقود هذه النظرة أن الإنسان اليوم بعد أن اكتشف قوانين الطبيعة وتقدمت معارفه لم يعد يحتاج إلى الدين، فهو قادر أن يحيا بالعلم وأن يجد حلولاً لمشكلات حياته.

ثمة خلط في التفسير المادي لظاهرة الدين يقوم على إغفال الفرق بين الجوهر الداخلي للإنسان وبين حياته الخارجية، فكما أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، فإنه ليس باختراع الطائرة والحاسوب والهاتف، ولا بتطوير الطب والعلاج، ولا بمضاعفة الإنتاج وحده يقنع الإنسان.. إن كل هذه المخترعات العظيمة تيسر الحياة المادية وتزيد من تسخير الطبيعة له، لكنها لا تسبر أغواره الروحية، ولا تكفي لملء نفسه بالسكينة والطمأنينة وأرقام الكآبة والانتحار وقتامة الوجوه في عصر العيش الرغيد وبسط الرزق؛ برهان واضح على أن ثمة أمراً ينقص الإنسان.

إن وفرة الأشياء يسرت حياة الإنسان، لكنها لم تجلب له الطمأنينة والسكون. لقد سلب التطور التقني روح الإنسان، فما يكاد يشتري جهازاً جديداً حتى ينزل إلى السوق إصدار أحدث، فيلهث وراءه مخدوعاً بميزاته الجديدة وتستمر هذه اللعبة المميتة بلا نهاية، ويظل الإنسان مستلباً لاهثاً طوال حياته.

في جيل آبائنا لم يكن الإنترنت قد غزا المجتمعات، وكان التلفاز يقتصر على أقل من خمس محطات أرضية، لكن إرادة القراءة والثقافة كانت أكبر، فكان الكتاب الواحد يدور بين العشرات من أبناء الحي؛ يقرؤه أحدهم بنهم ثم يعطيه لغيره ويبادله بكتاب آخر، وكانت مشاهدة التلفاز تتم بتركيز أكبر، إذ تجتمع العائلة لمشاهدة برنامج أو مسلسل حتى  نهايته. لكن في ظل طوفان المعرفة اليوم في الإنترنت والتلفاز، فإن الإنسان لا يكاد يصبر على إتمام مقالة أو متابعة برنامج حتى النهاية.

يقول سيكار إن الزمن الصناعي المتواصل لا يدع على الإطلاق للإنسان المنعزل أن يواجه نفسه..

إن افتراض أن التاريخ يسير في اتجاه تطوري بحاجة إلى تدقيق أيضاً، فحاجة الإنسان إلى الأمن والطمأنينة والسلام ومحنته الوجودية مع الخوف والحزن والعداوة هي ثوابت جوهرية في هذا الكائن، وإن الخوف الأعظم الذي ابتلي به الإنسان ليس خوفه من الوحوش في الزمن البدائي، بل خوفه الوجودي النابع من شعوره بالانقطاع عن مصدره وقلقه من المجهول الذي يحيط به، وبذلك تتبدى سطحية استنتاج إمكانية تجاوز الدين في زمن العلم والحضارة. فالربط بين لجوء الإنسان إلى التدين وشعوره بالخوف هو ربط معقول، لكن خوف الإنسان الذي يلجئه إلى الدين هو خوف وجودي لن يعالجه تقدم العلم أو تيسر الأدوات، إنه خوف نابع من الانقطاع عن المصدر الكلي المطلق للحياة و الرحمة والسلام. لذلك، فإن الدين وحده هو القادر على تحقيق الطمأنينة والأمن للإنسان؛ لأنه يحميه من الشعور بالعبثية والضياع، ويعطي لحياته معنىً، ويقدم له إجابات شافيةً عن خلقه ومصيره، ويشعره بالراحة بأنه لم يخلق سدىً ولن يترك عبثاً، وأن هذا الكون محكوم بميزان أخلاقي دقيق، فلا يضيع إحسان محسن ولو كان مثقال ذرة، ولا يفلت ظالم من ظلمه مهما عظم سلطانه وامتد ملكه: "فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

الدين ليس في موضع تنافس مع العلم، فالعلم يتعلق بالكيفيات ولا يجيب عن الغايات. إن العلم يفسر أسباب سقوط الإمبراطوريات وتحلل الحضارات، لكن الدين يظهر العظة الروحية في هلاك الأمم ويدعونا إلى الاعتبار وتمثل النفس؛ لأن القانون الذي أهلك الأولين لا يزال ساري المفعول في الآخرين. إن العلم ينظر إلى الطبيعة من مسافة فاصلة، وينظر إليها أنها مادة جامدة، لكن الدين يعزز سلطة الإنسان عبر الربط بين أفعاله ومصيره، العلم قد يخلص إلى أن حضارةً بادت بالصدفة بسبب قسوة الطبيعة، لكن الدين يقول هو من عند أنفسكم، إنه يوجه الاهتمام إلى عالم الأخلاق، وينبه الإنسان إلى قدرته على تغيير مصيره بتغيير نيته وفعله. إن الطبيعة وأحداث التاريخ في ميزان الدين نابضة بالحياة؛ تتشكل وفق قرار الإنسان ولا تمارس عليه قهراً جبرياً.

التقدم العلمي يوفر أسباب الراحة للوجود الإنساني، لكنه لا يجيب عن أصل الموضوع وهو لماذا وجد هذا الإنسان.

هل وجد ليخترع ويكتشف ويقيم البنيان والعمارة؟ وماذا بعد أن يفعل كل هذا ثم يموت؟ هل يتحول إلى فناء مثله مثل التراب وكأن شيئاً لم يكن؟

إن كان الفناء هو القانون الحتمي للإنسان، فمن أين جاءت في داخلنا هذه الأشواق الخالدة للسلام والحب والخلود؟

الشعور بالعطش في داخلنا يدل على وجود الماء، ماذا لو أننا نشعر بالعطش ولا يوجد في الطبيعة ماء؟

إذا كان الشعور بالعطش منبهاً طبيعياً لنا للبحث عن الماء الذي هو موجود، والشعور بالرغبة بالجنس منبه طبيعي للبشر كي يتزاوجوا ويحافظوا على نسلهم من الانقراض، ألا يفترض بنفس المنطق أن تكون أشواق البشرية وأحلامها وخيالاتها لعالم الكمال والعدالة والسعادة المطلقة والخلود والسلام هي منبهات طبيعية أودعها الله في داخلنا لتستفزنا للشوق والعمل من أجل ذلك العالم الموجود حقاً؟

يعطي الدين معنىً للعمل الصالح والخلق الكريم. سيجادل الماديون هنا بأن الأخلاق حاضرة خارج دائرة الدين، وكم من ملحد مرهف القلب عظيم الإحسان.

تتمثل إضافة الدين الرئيسة في أنها تحفظ العمل الأخلاقي من الضياع عبثاً، لقد فني ذلك الرجل الذي كان يساعد الأيتام والفقراء قبل مئة عام، وفني أيضاً ذلك الرجل الذي كان يقتل ويفسد في الأرض قبل مئة عام، الدين وحده هو الذي يحررنا من هذه العبثية: "ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى".

إذا كان الدين ليس منشئاً للأخلاق ابتداءً، فهو معزز لها ومكافئ لأصحابها، وهو الذي يحقق العدل في التفريق بين الإحسان والإساءة. إن إسقاط الدين من حياة البشر يفقد الأخلاق جدواها، ففي لحظة حسابات مادية سيفكر الإنسان ما الذي سيدفعه لمواصلة الاستقامة في عالم يتفوق فيه الأشرار. إن الإيمان بالجزاء وبالإله الرحيم السميع البصير هو الذي يبث الطمأنينة في نفوس المؤمنين أن عملهم الصالح لن يذهب سدىً. قد يسقط فريق من المتدينين بدورهم في الاختبار، لكن بقاء الميزان صحيحاً يحفظ الحياة من العبثية، فالمحسن لن يكون مثل المسيء سواءً محياهم ومماتهم.

يعطي الدين الأخلاق تحديداً ووضوحاً فلا تبقى رهناً للمزاج القابل للتغير، إن الأخلاق بدون تحديد لن تكون كاملةً، أما الدين فهو يعطينا البوصلة الأخلاقية الكاملة، إذ يوجهنا كيف نتعامل في الغضب، وفي الرضى في الحزن، وفي الفرح مع من أحسن إلينا ومع من أساء إلينا، ينهانا عن الغيبة وعن السخرية وعن الجدال إلا بالتي هي أحسن، وألا نقول إلا التي هي أحسن لأن الشيطان ينزغ بيننا.

هذه الأخلاق التي يدعو الدين إليها توجد في حياة الناس بدافع الفطرة، لكنها تكون انتقائيةً ومبعثرةً بينهم، أما الدين فيجمع هذه الأخلاق كلها في منظومة واحدة متكاملة ويضفي عليها بعداً غائياً بربطها بالثواب الإلهي، ويوجد حداً قانونياً أدنى يلتزم به الإنسان حين تتشوش فطرته أو حين يغلبه الغضب.

الدين باق بقاء الإنسان؛ لأنه يعالج مشكلاته الوجودية التي لن تنفصل عنه ويمنحه الطمأنينة ويروي أشواقه الروحية ويوجد السلام الداخلي في قلبه. العلم يسخر الطبيعة للإنسان ويسهل حياته، لكنه لن ينفذ إلى كينونته ولن يعالج اغترابه الوجودي، واليوم في عصر الحضارة والتقدم ترجع أعداد متزايدة من الناس إلى ندائها الروحي، كما يقول في ذلك دانيال بينيك صاحب كتاب "عقل جديد كامل":

"اذهب إلى أي مجتمع مزدهر إلى حد ما في الدول المتقدمة، وإلى جانب فرص التسوق العديدة يمكنك أن تلمح تجسيداً لمطلب السمو يتمثل في الإقبال الشديد الذي أصبح شائعاً على ممارسات كانت غريبةً ذات يوم، مثل اليوجا والتأمل، إلى ازدياد الاهتمام بالروحانية في أماكن العمل والموضوعات الدينية في الكتب والأفلام.. أصبح السعي من أجل الغاية والمعنى جزءً مكملاً لحياتنا".

يتضمن الدين تشريعات تعالج ظروفاً تاريخيةً محددةً، بعض هذه التشريعات يمكن للعلماء إعادة النظر فيها في ضوء مقاربات جديدة إذا تغيرت ظروف تشريعها في ضوء العلل والمقاصد الكبرى للدين، لكن إعادة النظر في تشريعات تفصيلية معللة بسياقات تاريخية محددة لا يبرر التشكيك في أصل الدين، فالدين في جوهره هو القضايا الكبرى التي يعالجها من إيمان بالله واليوم الآخر، وثواب المحسن وعقاب المسيء، وتجاوز لمحدودية الحياة الدنيا ونفاذ إلى عالم الغيب الواسع اللا نهائي، والحديث عن انتهاء مهمة الدين يحتمل وجاهةً حين يكون الحديث ممكناً أن الإنسان لم يعد يحتاج إلى الصدق والأمانة والحب والعدل والإحسان والسلام؛ لأن هذه المعاني كانت قبل خمسة آلاف عام.