قضايا وآراء

يا عزيزي إنها الحرب وإن لم تسمع طبولها...

1300x600
منذ تاريخ البشرية القديم والحروب تقوم لأسباب اقتصادية ومعيشية، كالصراع من أجل الحصول على المياه والمرعى والنزاع على الحدود، ومع تطور وسائل الاستعمار وتحديث أدواته، أدخل المستعمر الأبيض مقولة إن الشعوب الأكثر تحضرا من حقها احتلال أراضي الشعوب الأقل تحضرا.

هذا هو بيت القصيد...

فالغرب المستعمر يختلق الأسباب ويخترع المبررات للنيل من أي شعب أو أمة يريد السيطرة عليها، ولا يجد له من المبررات ما يسعفه.. هل هذا ما حدث مع تركيا مؤخرا؟ ربما.

القصة قد تعود إلى خمسة عشر عاما خلت حين أرادت أمريكا، بل وقررت وأعلنت، أنها ستغزو العراق في عام 2003 عبر الأراضي التركية المجاورة للعراق. ولم لا، فتركيا وأمريكا شريكتان في حلف الناتو، وأمريكا داعم وضامن لجنرالات الحكم في تركيا، وهي شريك زاعق أو صامت في الانقلابات التي وقعت في تركيا خلال الخمسة عقود الأخيرة.

المتغير الوحيد في الحياة السياسية التركية آنذاك هو وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، وهو حزب ذو مرجعية إسلامية، لكنه جديد على الساحة، وربما تصور الأمريكان أنه لن يمكث طويلا في الحكم، كما جرت العادة مع الأحزاب الإسلامية كلما وصل حزب إسلامي جديد على غير رغبة وإرادة الجنرالات.

من هنا ربما كان اهتمام دوائر صنع القرار ومراقبتهم لسلوك الحكومة التركية الجديدة، والتي استمرت في الحكم منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وكان السؤال هو: أين ستقف تركيا الجديدة من المشروع الغربي بالضبط؟

السنون الأولى لحكم العدالة والتنمية كانت توحي بأنه حزب سينكفئ على الداخل، وسيشغل بقضايا التنمية في مواجهة الكساد والشفافية في مواجهة الفساد، وأنه لن يدخل في صدام مع الجنرالات وكلاء الغرب في تركيا شأنهم شأن معظم جنرالات العسكر في المنطقة. وقد انشغل الحزب فعليا بتقديم نموذج للحكم الرشيد، وقلص مساحة النزاعات الداخلية والخارجية، ولم يثر قضايا دينية حساسة لطالما نادى بها الإسلاميون مثل الحجاب...

ربما فهم الأمريكان أن الحزب الجديد سيحتاج إلى دعم أمريكا في قضايا التحول الديمقراطي، وبالتالي يتعين على الحزب أن يرد الجميل يوما ما، أي وبلغة السياسة أن يكون تابعا نموذجيا للبيت الأبيض، الأمر الذي لم يحدث منذ 2002 إلى حتى اليوم.

اضطربت العلاقة، وباتت تركيا تبحث لنفسها عن مكان ما تصنعه بنفسها بين شرق أوسط مضطرب ومسيطر عليه من الأمريكان؛ وأوروبا التي لا تزال مترددة في ضم تركيا لناديها (المسيحي)، وروسيا المحاصرة من أوروبا وأمريكا والباحثة عن انبعاث جديد في ظل حصار قاسٍ، وإيران التي حوصرت لثلاثين عاما، وترى في تركيا شريكا اقتصاديا منقذا لها من الحصار، وشريكا سياسيا في العقود المقبلة.

لم تجد تركيا في العالم العربي، وخصوصا الأقطاب الكبرى مثل مصر والسعودية، شريكا، بل وجدت السلطة التركية نفسها في مواجهة مشروع الثورات المضادة المدعوم من الصهاينة والسعوديين والإماراتيين، والجنرالات في مصر وليبيا وفي سوريا واليمن، وكانت خياراتها محدودة: إما أن تقف مع الشعوب أو تقف ضدها، واختارت أن تكون مع الشعوب ومع الإبقاء على شعرة معاوية مع السعودية والخليج العربي عموما، حتى وقعت الواقعة في 2016، وأدركت تركيا أن السعودية ليست ضمن دائرة الأصدقاء، وأدركت الأجهزة الأمنية أن ثمة رابطا بين الانقلاب الفاشل وبين السعودية والإمارات والبيت الأبيض، والكيان الصهيوني بالطبع.

انتبهت السلطة في تركيا إلى أن القصة لم تنته بعد، ورغم تحذير تركيا لهذه الدول، إلا أن وصول ترامب للسلطة نفخ الروح في هذه الدول من جديد، وأغراها بغزو قطر لولا تدخل تركيا الواضح والمعلن والصريح والسريع أيضا، وهو ما قطع شعرة معاوية مع السعودية والإمارات وباتت الأمور أكثر وضوحا.

مع وصول ترامب زاد التوتر، ومع منع الغزو السعودي لقطر بات ترامب أكثر عدائية، وباتت السعودية أكثر رغبة في الانتقام من تركيا ومن الحزب الحاكم، ومن أردوغان شخصيا. وكما تم تحريض ترامب ضد قطر في 2017، تم تحريضه ووعده بالدعم المالي ضد أردوغان (هذه هي رؤيتي وتحليلي لما جرى ولا يزال يجري)، فليس الأمر متعلقا بالبيت الأبيض وحده، بل وبدول الجوار التي ترى في تركيا خطرا حقيقيا يتعين على ترامب التعامل معه بطريقة أو بأخرى حتى نغلق ملف الربيع العربي، والذي أعتقد أنه لا يزال مفتوحا كجرح غائر في صدر الأنظمة المستبدة.

حركت أمريكا قصة القس برانسون (عميل المخابرات الأمريكية ) لتكون السبب المعلن لإعلان الحرب على تركيا مع العلم، وهذه معلومة حصلت عليها من مصدر وثيق الصلة بالسلطة مباشرة، حيث صرح لي أنه في اليوم الذي أعلن فيه ترامب العقوبات على تركيا، كانت المحادثات دائرة بين الطرفين للتعامل الدبلوماسي مع قضيتي القس وعملاء فتح الله غولن. وقد فوجئ الأتراك بالسلوك الأمريكي رغم المباحثات الدائرة، وهو نفس سلوك ترامب حين وقعت الأزمة الخليجية والحصار السعودي الإماراتي ضد قطر، إذ أعلن ترامب ساعتها عن دعمه للتحركات السعودية، بينما كان فريق الخارجية الأمريكي يرى تهدئة الأمور، ومع زيادة الضغط والوعود المالية السعودية انحاز ترامب لفكرة الغزو التي أجهضتها تركيا، بينما انحاز تيلرسون، وزير خارجية أمريكا آنذاك،، للموقف القطري وهو ما نتج عنه إقالته في أقرب فرصة سنحت لترامب.

لم تكن قصية القس هي القشة التي قصمت ظهر البعير ولا هم يحزنون، فحسب المعلومات المتوفرة، فالقس الأمريكي كان يعمل جاسوسا أو عميلا للمخابرات الأمريكية، وقد ووجه في النيابة التركية بحزمة من الأدلة التي لم يستطع تبريرها أو تفنيدها، ولكن تركيا التي لم تُرد تفجير موقف سياسي ضد أمريكا واحتفظت بما لديها من أوراق، وجدت نفسها أمام تحرك جديد ومرتب له لإعلان الحرب عليها على غرار ما حدث مع قطر، ولكن ردة فعلها كانت قوية فقد تمسكت بالتحرك الدبلوماسي، وبادرت بالتحرك من أجل حل هادئ لنزع فتيل الأزمة لمّا تبين لها أن الأمر ليس متعلقا لا بالقسيس ولا بالكنيسة، بل بالمنطقة وبالرغبة في تقليص نفوذ تركيا لصالح السعودية والكيان الصهيوني، ولصالح الهيمنة الأمريكية التي تواجه رغبة تركية في الاستقلالية والتعامل بندية، وهي أمور ليست جديدة على أجندة السياسة الأمريكية التي ترى أن من حق أمريكا الهيمنة والسيطرة بسبب أو بدون إبداء الأسباب.

تعتقد السعودية والإمارات والكيان الصهيوني أن تركيا المستقلة تمثل خطر كبير على العالم، وأن العروش الخليجية قد تكون مهددة بسبب دعم تركيا للربيع العربي، تماما كما يعتقد ترامب أن تركيا المسلمة خطر على الغرب؛ لأنه جاء وفق أجندة واضحة معلنة للحرب على الإسلام، وبالتالي فقد التقت إرادة الحكومات المستبدة والكيان المستعمر للأرض العربية والإدارة الأمريكية المعادية للإسلام بكل تفاصيله؛ على إعلان الحرب على تركيا، وما نراها من حرب اقتصادية على الليرة التركية اليوم ما هي إلا إشارة البدء لهذه الحرب، وما نراه من دور شعبي واستنفار تاريخي من الشعوب ومن الأمة التركية؛ هو إشارة أيضا لاستعداد الجميع للانحياز الواضح والصريح من أجل تركيا...

المستبدون العرب والشعوبيون الغربيون، وعلى رأسهم ترامب، يقدمون اليوم خدمة جليلة للربيع العربي.... والأيام حبلى وسوف نرى.