كتاب عربي 21

"الزيتونة" من التهميش إلى الاختطاف

1300x600

لم ينطلق بعد نقاش صحي وعميق في تونس حول تقرير "لجنة الحريات الفردية والمساواة"؛ الذي صدر مؤخرا وتم تسليمه إلى رئيس الجمهورية. ما حدث حتى الآن طغى عليه الارتجال والعنف اللفظي عبر وسائل مواقع الاجتماعي ضد التقرير وأصحابه. وتكاد الأغلبية الساحقة لم تطلع بهدوء وتأمل على ما قدمته اللجنة، ولم تتوقف عند مقترحاتها قبل التعليق عليها سواء بالمساندة أو الرفض.

حتى بيان ما سمي بـ"أساتذة جامعة الزيتونة وعلمائها ومشايخها"؛ جاء مخيبا لآمال الكثيرين، وكُتب بأسلوب حربي، حيث تضمن حزمة من التهم الخطيرة، مثل "مخالفة الفطرة الإنسانية السليمة، وهدم الأسرة، والإضرار بالمرأة والأبناء بالخصوص، وتهديد سلم المجتمع وانسجامه، وزعزعة الأمن القومي والسيادة الوطنية، وذلك بتكريس الفردانية، ونشر الإباحية، وإشاعة الفاحشة، وتغذية الإرهاب، مما يؤول إلى تعاظم الاحتقان الشعبي، وضرب وحدة المجتمع والدولة، والإساءة إلى تونس في انتمائها العربي والإسلامي وفي فضائها المغاربي والإقليمي".

 

بيان ما سمي بـ"أساتذة جامعة الزيتونة وعلمائها ومشايخها"؛ جاء مخيبا لآمال الكثيرين، وكُتب بأسلوب حربي، حيث تضمن حزمة من التهم الخطيرة


الزيتونة اسم له وقع خاص في آذان التونسيين والمسلمين عامة، إذ يحيلهم إلى أقدم جامعة علمية أسست بعد انتشار الإسلام واستقراره في شمال إفريقيا، لكنها دخلت في أزمة تاريخية وعويصة، إلى أن جاء بورقيبة وقام بإلغائها بحجة توحيد التعليم، وعوضها بكلية متواضعة فاقدة للسند السياسي والمالي، حيث حاول أن ينفخ في روحها الفاضل بن عاشور الذي كان من بين قادة الحزب الدستوري.

مع ذلك، استمرت "الزيتونة" تعمل على الهامش ولا تؤثر في الواقع الثقافي والسياسي. وعندما جاء الجنرال ابن علي عمل على توظيف المؤسسة الدينية، فحول الزيتونة إلى جامعة دون أن يوفر لها استقلالية حقيقية أو إشعاعا فعليا، وإنما أخضعها أمنيا وسياسيا لإضفاء نوع من الشرعية الدينية على حكمه.

 


بعد الثورة عاد حنين بعض الزيتونيين، وتمكن أحدهم من السيطرة مؤقتا على الجامع الأعظم، وشرع في تنفيذ خطة تهدف إلى استئناف التعليم الزيتوني، وأقنع بذلك بعض الوزراء في عهد الترويكا، لكن اضطرت الحكومة إلى استعادة المسجد منه عندما تبين للجميع بأن ذلك سيدخل البلاد في فوضى دينية.

السؤال المطروح حاليا: هل يمكن لهذه الحركية أن تتحول إلى فرصة من أجل إنقاذ الجامعة الزيتونية؛ حتى تصبح مؤسسة علمية وقادرة على تحقيق الإضافة والمساهمة في تطوير الفكر الإسلامي؟


أما الجامعة الزيتونية، فقد استمرت في نشاطها التدريسي العادي دون أن تغادر مساحتها الضيقة. لكن ما أن صدر تقرير الحريات، حتى دخلت المؤسسة في حركية لافتة للنظر. والسؤال المطروح حاليا: هل يمكن لهذه الحركية أن تتحول إلى فرصة من أجل إنقاذ الجامعة الزيتونية؛ حتى تصبح مؤسسة علمية وقادرة على تحقيق الإضافة والمساهمة في تطوير الفكر الإسلامي وتستأنف حركة الاجتهاد داخل تونس وخارجها؟

بصراحة المؤشرات الأولى غير مطمئنة. صحيح أن رئاسة الجمهورية لم تشرك أي أحد من أساتذة الزيتونة في تركيبة اللجنة، وهذا خطأ لا مبرر له، لكن ذلك وحده لا يفسر ردود الفعل العنيفة التي طبعت مواقف الجامعة وعدد من أساتذتها.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الجامعة تضم داخل أسرة التدريس تيارين على الأقل، أحدهما محافظ والآخر له توجهات إصلاحية متفاوتة. وهذا في حد ذاته مؤشر إيجابي ومساعد على تطوير المؤسسة؛ لو تم فتح حوار معمق بين مختلف مكوناتها مع توفر الإرادة السياسية الضرورية في هذا السياق.

 

الجامعة تضم داخل أسرة التدريس تيارين على الأقل، أحدهما محافظ والآخر له توجهات إصلاحية متفاوتة. وهذا في حد ذاته مؤشر إيجابي ومساعد على تطوير المؤسسة


وإذ يقر العديد من أساتذة الزيتونة بهذه الأزمة، لكنهم يختلفون في تشخيصها وفي أسبابها، وأيضا في كيفية معالجتها. إذ يعتبر البعض أن المشكلة الأساسية تكمن في أن الطلبة الذين يتوجهون نحو الزيتونة يتسمون بضعف المستوى، ولا يتجاوز طموحهم العلمي الرغبة في الحصول على شهادة جامعية تؤهلهم لدخول سوق الشغل. لكن المشكلة في العمق تتجاوز حدود الطلبة، لتشمل أيضا وجود نقائص هامة في التكوين المعرفي لدى عديد المدرسين، يضاف إلى ذلك ضرورة مراجعة برامج التدريس ومناهجه وأهداف الدراسة، وربط المؤسسة بمحيطها الثقافي والاجتماعي.

لا تختلف الجامعة الزيتونية عن بقية المؤسسات الإسلامية في العالم الإسلامي، إذ جميعها تقريبا مشدودة إلى الماضي، تكاد تكون في قطيعة مع التحولات الجارية في العالم.. تنقصها الجرأة والاجتهاد، وتغيب لديها المبادرات الكبرى والعقلية الاستشرف.

هناك خوف دائم على الإسلام رغم أن المخاطر الحقيقية على الدين لا تأتي من الخارج كما يفترض البعض، وإنما تكمن في الافتقار للتأسيس وفي ضعف الربط بين الفكر الديني والواقع المتحرك.

حركة النهضة فوجئت ولا شك ببعض محتويات التقرير، لكنها تعاملت إلى حد الآن بمسؤولية وبرصانة

لو قمنا بمقارنة بين موقف هذا الشق من أساتذة الزيتونة وبين حركة النهضة من تقرير لجنة الحريات، لوجدنا المنطلقات مختلفة تماما لدى الطرفين. فحركة النهضة فوجئت ولا شك ببعض محتويات التقرير، لكنها تعاملت إلى حد الآن بمسؤولية وبرصانة. لقد رأت فيه "منطلقا لحوار مجتمعي"، مع تأكيد مواقفها "الثابتة" في "الدفاع عن الحريات العامة والخاصة، والانتصار لحقوق المرأة والدفاع عن مكاسبها، والعمل على ضمان المساواة في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال، على قاعدة المواطنة والاحتكام ‎لمواد الدستور وفصوله واحترام مقومات الهوية الوطنية للشعب". وشتان بين من رفع الرايات وهيأ نفسه للحرب، وبين من قرر منذ البداية الاستعداد لإدارة حوار مسؤول، وأن يبحث مع الشركاء في الوطن عن القواسم المشتركة والحامية للحقوق والمصالح العليا للبلاد. عقليتان مختلفتان تماما.