قضايا وآراء

إلى أين تتجه حركات الاحتجاج الاجتماعي العربية؟

1300x600

يلمسُ من يتابع الشأن العربي درجة تصاعد حركات الاحتجاج الاجتماعي الممتدة على أكثر من بلد عربي، كما يُدرك طبيعة الأشكال التي شرعَ فاعلوها وأنصارها في الإقدام عليها، والاجتهاد في إبداعها. فالتعبير عن الاحتجاج لم يعد يمر عبر القنوات التقليدية المألوفة، أو باتفاق معها، كالأحزاب السياسية والنقابات المهنية، وحتى الجمعيات والروابط المهنية، بل تجاوزها إلى الإفصاح عن نفسه، أي التعبير عن مطالب أصحابه، مباشرة أو عبر استثمار الإمكانات الهائلة التي تتيحها ثورة الاتصال الجديدة، وفي صدارتها شبكات التواصل الاجتماعي، وخدمات "النت" وما يرتبط بها ويتفرع عنها.

 

البروز المتعاظم لحركات الاحتجاج الاجتماعي لم يبدأ مع الألفية الثالثة، ولا حتى مع ما سُمي "الربيع العربي"، بل يرجع ظهوره إلى ما قبل هذا التاريخ بكثير، حيث ظلت "المسألة الاجتماعية"، والمطالبة بعدالة توزيع الثروات، من أبرز الاختلالات


تُوضِّح خريطة الاحتجاجات الاجتماعية العربية الراهنة أنها قليلة هي البلدان التي لم تمسها، بشكل أو بآخر، هذه الموجات، وتتأثر بضغوطاتها الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، بل إن التصاعد بلغ مداهُ في بعض الدول، كما هو حال الأردن، والمغرب، وتونس، والجزائر، والسودان، والعدد مرشح للتزايد.. ربما حتى في الأقطار التي مكنتها عائداتها النفطية من الاستمرار في شراء السلم الاجتماعي، عبر التوزيع السخي للريع النفطي، كما هو الحال في مجمل بلدان الخليج العربي. والحقيقة، أن البروز المتعاظم لحركات الاحتجاج الاجتماعي لم يبدأ مع الألفية الثالثة، ولا حتى مع ما سُمي "الربيع العربي"، بل يرجع ظهوره إلى ما قبل هذا التاريخ بكثير، حيث ظلت "المسألة الاجتماعية"، والمطالبة بعدالة توزيع الثروات، من أبرز الاختلالات التي وسِمت مسار تطور الدولة العربية الحديثة.

 

من غير المعروف على وجه الدقة حجم التأثيرات، واتجاهاتها، والمساهمة التي ستُسفر عنها بالنسبة للتغييرات المنشودة في مجال الحريات الأساسية، والعدالة الاجتماعية في العالم العربي


إذا كانت حركات الاحتجاج الاجتماعي الجديدة قد ميزت المجال العربي، وضاعفت من تعقيداته وتوتراته، وأثرت بشكل مباشر على بنائه السياسي في دول، ومرشحة لأن تؤثر على بلدان لاحقة، فإن من غير المعروف على وجه الدقة حجم هذه التأثيرات، واتجاهاتها، والمساهمة التي ستُسفر عنها بالنسبة للتغييرات المنشودة في مجال الحريات الأساسية، والعدالة الاجتماعية في العالم العربي. فمن باب المقارنة العمودية، شهدت دول وسط وشرق أوروبا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي موجة من حركات الاحتجاج الاجتماعي، كان لها الوقع العميق على إعادة صياغة أبنية ومؤسسات هذه البلدان، وفتحت الطريق نحو التغيير الذي شهدته منظومة دول شرق ووسط أوروبا.. فهل سيكون لحركات الاحتجاج في البلاد العربية الأفق نفسه والتغييرات ذاتها؟ أم أن السياقين مختلفان، وعناصر المقارنة غير متوفرة؟

جدير بالتذكير، أن ثمة معطيات جوهرية مرتبطة بالسياق الأوروبي غير متوفرة بكاملها في السياق العربي، ومنها أن حركات الاحتجاج الاجتماعي في وسط وشرق أوروبا صاغت مطالبها حول قضايا محددة غير مطروحة في السياق العربي، أو غير مُثارة بنفس الحدة والأهمية، ومنها: السلام العالمي، والبيئة وحقوق المرأة والأقليات، بينما انحصرت مطالب الحراك الاجتماعي العربي في قضيتي الحرية والكرامة، أي العدالة الاجتماعية، علما أن القضايا الأخرى، بما فيها "المسألة النسائية"، والبيئة، وتعدد مكونات الهوية الوطنية، غير غائبة، لكن لم تحظ بالأولوية والصدارة نفسها. ثم إن طبيعة قضايا الحراك في السياق الأوروبي، فرض نوعية المؤيدين والمناصرين والمدعمين للحراك، أي شرائح واسعة من المجتمع، بما فيها الطبقة الوسطى، وهو ما نجد نظيرا له في السياق العربي، حيث ما زالت بعض الطبقات والفئات الاجتماعية مترددة في الانخراط في الحراك، أو ملتزمة بالحياد وعدم المبالاة حياله، كما هو حال الطبقة الوسطى وشريحة المثقفين، وهي من المصادر غير المُعضِّدة لديناميات الحراك العربي، والداعِمة لآفاقه في التغيير.

 

حركات الاحتجاج الاجتماعي في وسط وشرق أوروبا صاغت مطالبها حول قضايا محددة غير مطروحة في السياق العربي، أو غير مُثارة بنفس الحدة والأهمية

تُقنعُنا المقارنة العمودية بين السياقين بأمور أخرى بالغة الأهمية، من أهمها: أن حركات الاحتجاج في السياق الأوروبي تحولت بفعل القضايا التي وجهت نضالها، إما إلى أحزاب سياسية مؤثرة في الحياة العامة، كما هو حال أنصار الدفاع عن البيئة، الذين تحولوا ألى أحزاب خضر، أو مثلوا قوة ضغط مهمة، أجبرت الأحزاب التقليدية إلى الإنصات إليها، والتفاوض معها على قاعدة مطالبها وشعاراتها، وقد كان لذلك التأثير البالغ في الكثير من الائتلافات الحكومية الناشئة. حلافا لذلك، نلاحظ وجود فجوة بين حركات الاحتجاج الاجتماعي العربية وباقي الوسائط السياسية والمهنية، من أحزاب سياسية أساساً، ونقابات ومنظمات اجتماعية، وأيضا مؤسسات برلمانية وحكومية.

يمكن التأكيد على الفجوة القائمة بين حركات الاحتجاج القائمة في بعض مناطق المغرب (الولايات أو المحافظات) والمؤسسات التمثيلية، من برلمان وحكومة، وكذلك الأحزاب والمنظمات النقابية والمهنية.. التي من المفروض أن تكون مجتمعة أداة تواصل بين مطالب حركات الاحتجاج الاجتماعي وصناع القرار السياسي والحزبي والنقابي.. والواقع نفسه تعيشه تونس والجزائر، وربما تشترك فيه مجمل بلدان الحراك الاجتماعي في المنطقة العربية، وهو ما يشكل ظاهرة بالغة الخطورة في المجال العربي.

 

حركات الاحتجاج في البلاد العربية ما زالت متأرجحة بين رفع سقف احتجاجها، وتقديم تضحيات بشرية بالغة الأهمية، وإجهادها من أجل تغيير طبيعة نظمها السياسية، وممارسة نخبها

إذا كانت حركات الاحتجاج الاجتماعي في السياق الأوروبي قد حققت قدرا واضحا من التغيير، وساهمت في تمكين مجتمعاتها من الانتقال من نظم شمولية ومتكورة حول نفسها إلى أخرى مغايرة، تسعى إلى ترسيخ الديمقراطية في ثقافة دولها ومجتمعاتها، فإن نظيراتها في البلاد العربية ما زالت متأرجحة بين رفع سقف احتجاجها، وتقديم تضحيات بشرية بالغة الأهمية، وإجهادها من أجل تغيير طبيعة نظمها السياسية، وممارسة نخبها، والسعي إلى صياغة تعاقد اجتماعي جديد، ينتصر لجوهر مطالبها، أي ترسيخ قيمة الحرية بكل أنواعها وأشكالها، وإعادة توزيع الثروة والخيرات الوطنية على أسس جديدة، تتصدرها مبادئ التكافؤ، والاستحقاق، والشفافية.