كتاب عربي 21

من أجل الاستفتاء على "إصلاحات" صندوق النقد

1300x600

ما حصل في الأردن الشقيق الأسبوع الماضي يستدعي التأمل العميق. فبوصلة الشارع الأردني في الاتجاه الصحيح، فقط الوعي الاجتماعي قادر على تخطي كل الصراعات الهوياتية الوهمية، وفرض نقاش جدي حول ما يقدم مصالح الناس وما يؤخرها. الديمقراطية وحدها، أو ما يشبهها كما الحال في تونس، غير كافية لتعرية الغشاء عما يستحق الجدال. سبع سنوات من الثورة والانتقال الديمقراطي في تونس لم تقدر على ذلك حتى الآن، ولا يزال الاستقطاب السياسي السائد يعبر أساسا عن الجدال الهووي الزائف.

قبل أسبوع أيضا جابت مسيرات لآلاف المواطنين الأرجنتينيين العاصمة بوينس آيرس، احتجاجا على اتفاقية قرض جديدة مع صندوق النقد الدولي. للتذكير، خلال أزمة 2001-2002، يعتبر العديد من المختصين وجزء كبير من الرأي العام الأرجنتيني؛ أن تدخّل صندوق النقد آنذاك زاد في تأزم الوضع. والتطورات الجديدة في الأرجنتين تتمثل في انخفاض قيمة العملة الأرجنتينية.

 

في كل الحالات لا يوجد أي نقاش اقتصادي يشق الرأي العام، خاصة حول ما تردده بشكل ميكانيكي الطبقة السياسية السائدة، وبالتحديد "الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية"


حتى اللحظة، لم تنجح الثورة في تحرير العقل الاقتصادي في تونس. إذ يتراوح بين وصفتين تقليديتين، الأولى تخضع تماما وبدون أي مسافة نقدية للمؤسسات المالية الدولية، على رأسها صندوق النقد الدولي، والثانية تقبع في في حقل الاحتجاج النظري والعجز عن تنزيل الاقتصاد البديل في سياقاته المحلية. وفي كل الحالات لا يوجد أي نقاش اقتصادي يشق الرأي العام، خاصة حول ما تردده بشكل ميكانيكي الطبقة السياسية السائدة، وبالتحديد "الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الضرورية". إذ تشق النقاشات الهوياتية الشارع التونسي أكثر من أي مسائل أخرى. في المقابل، يتبنى الجميع تقريبا جملة "الإصلاحات الضرورية"، لكن القليل فقط يغامر لإعلان طبيعة هذه الإصلاحات، إذ هي في الأغلب ما تم تقريره من قبل صندوق النقد.

لهذا، أليس من المنطقي والمعقول استفتاء الشعب التونسي فيما يمس أهم قضاياه ومصالحه الاقتصادية والاجتماعية؟ أليست الديمقراطية بمنطقها الحالي الذي يزيف الوعي الاجتماعي تحفر قبرها بيديها؟ أليست الديمقراطية في أحد تمظهراتها الأساسية تمكين الناس من السيادة على السياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية؟ فما الفائدة من التمتع بالحق في الانتخاب إن سلم المنتخبون أي إرادة للقرار إلى غرف مغلقة لبعض المؤسسات الدولية؟ بهذا المعنى أصبح من المحتم طرح برنامج "الإصلاحات" للاستفتاء الشعبي مباشرة، ودون انتظار انتخابات 2019، وإلا فإن أي طرف سيتم انتخابه سيكون مورطا في مقدمات "إصلاحية" لم يخترها ضرورة، ولم يفكر فيها ناخبوه.

 

ما الفائدة من التمتع بالحق في الانتخاب إن سلم المنتخبون أي إرادة للقرار إلى غرف مغلقة لبعض المؤسسات الدولية؟

شرح وزير المالية السابق حكيم بن حمودة الأسبوع الماضي، في مقال بعنوان "صندوق النقد... والحاسم الموجع!"، الإجراءات "الموجعة" المطلوبة من الحكومة التونسية مقابل ضمان أي تمويل مالي دولي من خلال ما ورد في رسالة الصندوق العلنية مؤخرا. وعمليا، يطلب صندوق النقد "الحسم" في أربعة ملفات: أولا الزيادة في نسبة الفائدة، ثانيا التخفيض في نسبة الدعم لقطاع المحروقات، ثالثا احتواء الأجور، رابعا اعتماد قانون لإصلاح أنظمة التقاعد.

هناك ذرائع واضحة لهذه الإجراءات، خاصة في إطار العجز في الميزانية وتزايد التضخم، لكن كل هذه الإجراءات تقدم وصفة لتمديد الأزمة، بل وتوسعها. ترفيع نسبة الفائدة يعني صعوبات أكبر في القدرة على الاقتراض، ومن ثم تشديد الخناق على القدرة على الاستثمار الضعيفة أصلا. والتخفيض في الدعم لقطاع المحروقات في الوقت الذي فاق فيه سعر البرميل السعر المعتمد في الميزانية؛ يعني زيادة متوقعة أخرى وقريبا في أسعار البنزين، ومن ثم ارتفاعا بالضرورة للأسعار وفي نسب التضخم. وتجميد الأجور في ظل انخفاض القدرة الشرائية يعني بالضرورة تزايدا للتضخم. وأخيرا، قانون إصلاح أنظمة التقاعد؛ إذا تضمن التمديد في سن التقاعد فسيعني فرصا أقل لتجديد القوة الشغلية.

 

صندوق النقد ليس طوق النجاة، خاصة في ظل الاستسلام لمنهجيته والتفاوض على أساس نفس المسلمات القديمة من قبل إدارة الحكم الحالية


بمعنى آخر، فإن المربع الذي يدفعنا إليه صندوق النقد ليس طوق النجاة، خاصة في ظل الاستسلام لمنهجيته والتفاوض على أساس نفس المسلمات القديمة من قبل إدارة الحكم الحالية. ومثلما أشار بن حمودة في خاتمة مقاله: "لا بد لنا من إعادة النظر في هذه المفاوضات لمحاولة إيجاد هامش يسمح لنا بدعم النمو والاستثمار والخروج من الأزمة الحادة التي نعيشها اليوم"، غير أنه لا توجد مؤشرات على أن الائتلاف الحاكم الحالي يولي مسألة المنهجية الحالية في التعامل مع صندوق النق أي اهتمام.. كل اهتمامه مركّز على التموقع وإعادة التموقع في مفاصل الدولة، تحت غطاء الجدال الدائر حول تغيير حكومة يوسف الشاهد. الجميع ينظر إلى المستقبل.. انتخابات 2019، وليس مستقبل الموازنات العامة وكيفية تحديد خريطة طريق متلائمة مع المصالح التونسية العليا؛ بدلا من نسخة جافة من وصفة صندوق النقد الدولي.

تشخيص الاقتصاد التونسي الأكثر جدية هو الذي يصفه بأنه مجرد "اقتصاد ريعي" يخدم حفنة من أصحاب اللوبيات ويمنع تنمية جدية أكثر إدماجا. هذا ما قاله الاقتصادي الفرنسي ادوين لو هيرون (Edwin Le Héron) في حوار مع صحيفة "ليبيراسيون" هذا الأسبوع: "إنه اقتصاد الريع، كما هو الحال في العديد من البلدان في المنطقة. لا توجد طبقة من رواد الأعمال المبتكرين في تونس. على سبيل المثال رجال الأعمال لديهم اهتمام أكبر بالتفاوض على استيراد سيارات رينو من محاولة تخيل كيفية إنتاج هذه السيارات. لكن منطق الاستيراد هذا غالبا ما يقترن بمنطق الفساد. إنها حلقة مفرغة... من المؤكد أن شبكات المصالح لم تعد مرتبطة بأقارب ابن علي، لكنها لم تتغير حقاً. الكعكة ليست قابلة للتوسعة".

 

آخر مظاهر الخراب هو غرق "قارب موت" آخر قرب ساحل جزيرة قرقنة في طريقه لنقل مهاجرين غير نظاميين إلى سواحل صقلية


لكن في ظل هذا التردي العام ستتواتر دائما الأحداث الاجتماعية التي تذكر الجميع بأن القضية ليست هوياتية، وأن الصراع على كراسي 2019 سيكون بلا معنى إذا أصبحت الدولة خرابا. فحكم الخراب ليس جائزة بل فخا. آخر مظاهر الخراب هو غرق "قارب موت" آخر قرب ساحل جزيرة قرقنة في طريقه لنقل مهاجرين غير نظاميين إلى سواحل صقلية. قتل غرقا حوالي الخمسين شابا، معظمهم من أكثر الولايات فقرا. صحيح أن قوارب الموت لم تتوقف البتة قبل الثورة وبعدها. لكن الجمعيات المتابعة للهرجة تشير بوضوح إلى أن نسبة المخاطرة في ازدياد غير مسبوق منذ أشهر، وانضم للقوارب بشكل متزايد الأطفال والحوامل.

هل ستبعث إجراءات "الحسم" و"الوجع" لصندوق النقد ببارقة أمل لجميع من يريد الذهاب أو سيفكر مستقبلا في ذلك؟ لا أعتقد ذلك. في المقابل، الضغط من أجل تغيير مفردات الصراع السياسي، وتحسيس الناس بأنه يمكن لهم البقاء في بلادهم تغيير الأوضاع، والاستفتاء على "إصلاحات" الصندوق، ما هي إلا آليات ديمقراطية لتحقيق هذا الهدف، وهي التي يمكن أن تضع شمعة في آخر النفق.