قضايا وآراء

يوم أن تضع الحرب أوزارها

1300x600

الحرب مآس وأحزان، دماء ودموع.. الحرب هي أن يترقب الطفل عودة أبيه في آخر النهار ليرتمي في أحضانه ويسأله عن الهدية التي أحضرها له، فلا يأتي الأب ويطول الانتظار بلا نهاية.. الحرب تعني أن ينتزع الأحبة من دفء أحضان أحبائهم، وأن يحكم على النساء أن يترملن باكراً، وعلى الأمهات أن يثكلن أبناءهن، وعلى الأطفال أن يعيشوا حياتهم بلا سند وظهير.

في المشهد الأول لاستخلاف الإنسان في الأرض أبدت الملائكة قلقها من السلوك العدواني لهذا الكائن: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، لكن الله تعالى أجاب الملائكة: "إني أعلم ما لا تعلمون". والواقع أن الإنسان منذ آدم إلى اليوم لم يخالف ظن الملائكة فيه، فلا يزال يفسد في الأرض ويسفك الدماء، وهو ما يستثير التأمل في معنى الرد الإلهي: ما هو هذا العلم الإلهي الذي يقابل ظن الملائكة في الإنسان والذي لم نره إلى يومنا هذا؟

 

هل الحرب قدر لا مفر منه للجنس البشري؟ أم أن بالإمكان تصور عالم جديد تنتهي فيه الحروب ويتعايش الناس فيما بينهم بسلام؟

كانت هذه الآية مفتاحاً تأملياً للمفكر السلامي جودت سعيد الذي أسس على هداها فلسفته السلمية، والتي يبشر فيها بميلاد إنسان جديد يقيم رسالات الأنبياء ويحقق علم الله فيه، فيتوقف عن الإفساد في الأرض وسفك الدماء.

هل الحرب قدر لا مفر منه للجنس البشري؟ أم أن بالإمكان تصور عالم جديد تنتهي فيه الحروب ويتعايش الناس فيما بينهم بسلام؟

إن منشأ الحروب بين البشر هو تصادم الإرادات، فيسعى كل فريق إلى إثبات إرادته وكسر إرادة عدوه، فإذا عانده عدوه، وهو السلوك الطبيعي المتوقع كون العدو أيضاً صاحب إرادة، سعى بكل وسيلة إلى إلغاء وجود عدوه، حتى يبلغ الصدام ذروته بإلغاء وجوده مادياً من أجل الاستفراد بالسيادة والهيمنة: "وتكون لكما الكبرياء في الأرض".

هذا التصادم بين الإرادات الإنسانية هو طبيعة ملازمة للجنس البشري: "اهبطوا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو"، فالإنسان تحرضه النفخة الإلهية المودعة فيه على حب التميز والتفرد، ولو لم يتقاتل البشر على الظفر بالغنائم والثروات المادية لتقاتلوا على المواقع المعنوية، مثل الرئاسة والوجاهة، وكم من حرب نشأت وقتل فيها ملايين البشر؛ ليس من أجل ثروة مادية بل من أجل سمعة وكبرياء. فهتلر أحرق العالم مدفوعاً بحميته القومية "ألمانيا فوق الجميع"، وبوش حين دمر أفغانستان أعلن أن هدف حربه أن يعلم الناس أن أمريكا هي أعظم أمة في التاريخ، وأبو جهل أصر على ورود بدر حتى تسمع العرب بقريش فلا تزال تهابها أبداً! وكل فريق يعلن الحرب يحدد هدفها أن تكسر إرادة العدو، ومختار العائلة حين تتشاجر مع عائلة أخرى يرفع شعار الكرامة والهيبة، وأن يعلم الناس من نحن ومن هم! وهكذا فإن العلة الرئيسة للحروب بين البشر ليست علةً اقتصاديةً، بل هي علة نفسية تتمثل في إثبات الكبرياء والهيمنة.

إذن، فمدخل مناقشة "عالم بلا حروب" يجب ألا يكون البحث في وسائل لتغيير الطبيعة الإنسانية وتخيل كائن طوباوي معدل جينياً، بل إن المدخل المناسب هو تغيير وسائل المواجهة، فتراعى حقيقة سعي الأفراد والأمم إلى التميز والانتصار، لكن بتكريس مفاهيم جديدة لمعنى الانتصار لا يقوم على الإفناء المادي للعدو، بل يكون مثل المباريات الرياضي التي ينتصر فيها فريق ويهزم فريق آخر دون إضرار مادي بالفريق المهزوم.

 

دخل مناقشة "عالم بلا حروب" يجب ألا يكون البحث في وسائل لتغيير الطبيعة الإنسانية وتخيل كائن طوباوي معدل جينياً، بل إن المدخل المناسب هو تغيير وسائل المواجهة

لقد تحقق هذا المعنى نسبياً في العلاقات الداخلية للدول التي تقوم فيها أنظمة سياسية راشدة، فقد تخلت أحزاب هذه الدول عن الصراعات الدموية من أجل الوصول إلى الحكم، وكرست ثقافةً اجتماعيةً وسياسيةً جديدةً تقوم على تداول السلطة وتوزيع السلطات والمعارضة بأساليب الاحتجاج السلمية. في هذه الأنظمة السياسية الجديدة لم تنتزع من الإنسان أنانيته واهتمامه بمصالحه الخاصة ورغبته في هزيمة خصومه، بل تغيرت الأدوات المتاحة للتعبير عن طبائعه الإنسانية، فلم يعد يحتاج إلى تكوين مليشيات مسلحة والانقلاب على الحاكم، بل صار بإمكانه أن يعد برنامجاً انتخابياً قادراً على المنافسة، وأن يراقب سلوك الحاكم ويحرض الجمهور إلى أخطائه، وأن يبحث في الحيل السياسية لتقوية علاقاته الحزبية وتوسيع قاعدته الجماهيرية من أجل أن يحظى بالمنصب الذي يتطلع إليه.

هذا التغير في أدوات المواجهة ليس مرده أخلاقية الإنسان المعاصر، فكم يختبئ وراء البذلات الأنيقة والدبلوماسية الرقيقة من وحشية تفوق وحشية إنسان الغابة الذي كان يأكل لحم أخيه الإنسان، ولو أتيحت الفرصة للإنسان المتحضر لتكشفت طباعه عن أسفل سافلين، لكن ما يدفع الإنسان المعاصر إلى تغيير أدوات المواجهة هي حالة الوعي الجمعي وتطور المفاهيم الإنسانية المشتركة، وتعزيز قدرة الشعب على محاسبتهم من خلال عدم تركز السلطات في يد فريق واحد وتوزع أقطابها، بما يضمن منع الهيمنة والاستفراد.

 

غدت الحروب اليوم من أفعال الصغار الذين تحركهم الدول الكبرى مثل بيادق الشطرنج، وتؤجج صدورهم وتوجه حماستهم في الوجهة التي تخدم مصالح تلك الدول الكبرى

ثمة مؤشر آخر على تراجع ثقافة الحرب في الحضارة الإنسانية، وهو العلاقات بين الدول الكبرى، فروسيا وأمريكا مثلاً لا تتقاتلان عسكرياً وجهاً لوجه، إنما تتنافسان فيما بينهما بالأدوات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والثقافية. لقد غدت الحروب اليوم من أفعال الصغار الذين تحركهم الدول الكبرى مثل بيادق الشطرنج، وتؤجج صدورهم وتوجه حماستهم في الوجهة التي تخدم مصالح تلك الدول الكبرى، فإذا تجاوز الصغار حدود اللعبة المرسومة لهم، تدخلت الصواريخ العابرة للقارات والمقاتلات الحربية لتعيدهم إلى حدود حلبة الصراع المسموحة.

إن الكبار لا يتقاتلون وجهاً لوجه؛ لأنهم يفهمون عناصر القوة الحقيقية من امتلاك أدوات المعرفة والهيمنة الاقتصادية، ولأنهم يدركون الثمن الباهظ للحروب في ضوء امتلاك أسلحة الدمار الشامل، ولأنهم مرتبطون بشبكة من العلاقات الاقتصادية والسياسية التي يصعب التفريط فيها وخسارتها إذا حدثت حرب شاملة. هذا الانحسار لخيار الحرب من علاقات الدول الكبرى لم يكن فعلاً أخلاقياً، بل كان مساراً تاريخياً إجبارياً في ضوء تغير مفهوم القوة وشمولها لمعاني التفوق الاقتصادي والمعرفي، وفي ضوء زيادة تشابك العلاقات الدولية وتداخلها بما يجعل الحرب خياراً مكلفاً للجميع، وفي ضوء التفوق الهائل في صناعة السلاح، وهو ما يجعل من الحرب خياراً انتحارياً. ومع ذلك، فهو مؤشر إيجابي يمنحنا الأمل بتوسع هذه الثقافة لتغزو أوطاننا المنهكة بالحرب والدمار وتستفزها لإعادة تغيير مفهوم القوة والانتصار، وتكريس الجهود في اتجاه صناعة الحياة وامتلاك أدوات التفوق المدني.

إن تكريس ثقافة السلام بين الأنام ومحاصرة خيار الحرب يكون عبر تجفيف المنابع الثقافية التي تغذي الحروب وتنفخ في نارها، فوقود الحرب هي مفاهيم الثأر والكرامة والعصبية القومية والسيادة، بينما وقود السلام مفاهيم بناء الإنسان وتعزيز المساواة والعدالة. وإن لنا في التاريخ القريب لعبرةً، فقد داست اليابان على جراحها وتغافلت عن مفهوم الكرامة وأعلنت استسلاماً غير مشروط لأمريكا، بعد تدمير ناجازاكي وهيروشيما، ثم أولت اهتمامها بالإنسان والعلم والصناعة، فدخلت العالم من جديد، لكن عبر بوابة العلم وليس عبر بوابة الحرب والسلاح.

 

أتخيل في حالتنا الفلسطينية لو أننا تركنا خيار المقاومة المسلحة كلياً أو حصرنا دوره في مهمة الردع، ثم تفرغنا لبناء نظام تعليمي حديث ومستشفيات تنقذ المرضى من الموت، ومصانع تنقذ الشباب من البطالة، ونشرنا ثقافة النضال السلمي وحقوق الإنسان والعدالة


أتخيل في حالتنا الفلسطينية لو أننا تركنا خيار المقاومة المسلحة كلياً أو حصرنا دوره في مهمة الردع، ثم تفرغنا لبناء نظام تعليمي حديث ومستشفيات تنقذ المرضى من الموت، ومصانع تنقذ الشباب من البطالة، ونشرنا ثقافة النضال السلمي وحقوق الإنسان والعدالة، ودخلنا أبواب العالم عبر الثقافة والفن والإعلام والتعليم.. ألن نكون قادرين على محاصرة عدونا بقوتنا الناعمة، وعلى تفتيت كتلته العنصرية الاحتلالية بالتسرب الهادئ في مفاصله مثل الماء الذي يفتت الصخر بالتتابع والاستمرار؟ ألن يكون هذا الخيار أكثر اقتصاديةً وأجدى في بناء الإنسان، فلا نكسب التحرير وحده، بل نكسب ما هو أهم، وهو أننا بنينا الإنسان الحر الإيجابي الفاعل صانع الحضارة؟

إن علم الله في هذا الإنسان لا يزال كامناً لم يخرج إلى حيز النور، ولا تزال طبائع الغابة تحكم سلوكه، لكن سلطة العلم التي منحها الله لهذا الكائن، والممكنات المودعة في خلقه تبشر بقدرة هذا الإنسان على بناء عالم جديد تنتصر فيه الروح الإلهية الخلاقة على طغيان القوة.

ويقولون متى، هو قل عسى أن يكون قريباً..