كتاب عربي 21

حاشية على "أبي شحاطة"

1300x600
سمعنا أبواقا من فريق النظام القاتل تباهي بنجاعة سلاح البرميل ورخصه.. البرميل فيه اقتصاد مالي وإسراف دموي، مع أن البلاد اغتصبت مرتين: مرّة كتفيش وطني، ومرّة احتلالا من الغزاة. لكننا في هذا المقال سنسعى إلى إجابة أخرى، ونخلص إلى أسباب غير شائعة لمنع روسيا سلاح "أس 400". وكان رئيس تحرير جريدة معروفة، أطلقنا عليه لقب أبي كلبشة، لحبه إطلاق التنجيمات والنبوءات، والافتخار بقوة أنفه على شمّ الأحداث، قد حاول أن يثير نخوة روسيا "اليوم" بقوله إن إسرائيل تعربد في ولايتها سوريا، ثم وجد عذرا حكيما لها في تجنب الانجرار إلى حرب عالمية.

البرميل سلاح رخيص، سهل الاستخدام، لا يحتاج إلى دارة إلكترونية، أو دورة تدريب، ويرمى برفسة، أو بحافر ينتعل البوط، مع ملاحظة أن الضحايا مدنيون، وأهالٍ (أطفال ونساء ورجال)، وليسوا من العدو الإسرائيلي، ولا من بقية دول التآمر الكوني. ليس لهؤلاء الضحايا قبب حديدية تقيهم شر البراميل، ولا دفاعات جوية تُسقط بها الطائرات الحوامة، فهي ممنوعة. الحرب لم تكن متكافئة، والحوامات أهداف سهلة، ويمكن أحيانا إسقاطها بأسلحة كالبنادق، ولا قواعد للاشتباك. ويمكن أن يقال بأن النظام هو نظام أبو شحاطة.. الشحاطة تناسب البرميل، البرميل كان يستخدم في سوريا كحاوية للنفايات، وكنا أولى من ألمانيا بها، فقد سبقت دمشق برلين في استخدام المترو. وحاويات ألمانيا عربات لها عجلات، أفضل من عجلات دولتنا النفاية، مغطاة، ملونة.. الحاوية الزرقاء للورق، الحاوية البنية للمواد الحيوية، الصفراء للبلاستيكية، السوداء لبقية أنواع النفايات، وهناك صناديق معدنية للزجاج، حسب لونه، وحاويات للألبسة المستعملة، وأيام مخصصة للأجهزة الإلكترونية والأثاث.

أما الأسد وأفراد أسرته الظريفة، الذين يستحقون الحاوية السوداء، فكانوا مشغولين بالنضال، لقد ناضلوا كي يجعلوا من الشام حاوية. أمست الشام برميلا لنفايات الأمم كلها. أنهارها: العاصي، قويق، بردى، كلها أصبحت مجارير في عهد الأسد. الأنهار الأخرى جفّت من الحزن.

البرميل سلاح مملوء بالبارود والمسامير، يمكن لأبي شحاطة إعداده بسهولة من غير خبراء. نذكّر القارئ بأن الخزينة كانت فارغة، والأسد اعتذر من الأهالي عن استخدام رصاص مطاطي، فالرصاص المطاطي أغلى من الرصاص المعدني.. آسف يا شعبي أنا مضطر للقتل. الرصاص المطاطي معدني مغلف بالمطاط لتخفيف الإصابة، العارفون وأولو العلم يقولون: إن خزينة الدولة كانت تصب في حساب الأسد.

سمعنا بعشرات الإنجازات العلمية السورية، التي أنجزها علماء سوريون، ومجتهدون، مقيمون في أماكن النزوح، لم نكن نسمع بهم في سوريا، مثل يمان أبو جيب، الذي اخترع غسالة شمسية تحمل اسم "غلين"، وعبد الرحمن الأشرف، الذي حصل على جائزة الشباب الأوروبي لعام 2016، بعد أن تقدم بمشروع يحل مشاكل انقطاع الإنترنت، سمّاه "فري كوم". ومجموعة أمل سوريا، وشبان صغار اخترعوا آلة تقوم بفرز النفايات، بل إن المحاصرين في الغوطة ابتكروا مضخات يدوية، وأخرى تعمل بدراجة ثابتة من غير عجلات، وحولوا المخلفات البلاستكية إلى وقود من أجل توليد الطاقة، وحفروا أنفاقا. أنفاقهم البدائية أقوى وأفضل من أنفاق الرئيس، التي كانت تتساقط من غير براميل، وتنجز في خطط خمسية.

بالعودة بالذاكرة إلى الجامعة والعمل، أو ذكريات الأصدقاء المتخرجين من كليات علمية، أتذكر عبادة النظام للآلة، وكان في جامعتنا نماذج لآلات متقدمة مستوردة من بلاد الخواجات، لكنها كانت محروسة ومقدسة مثل الآلهة في المعابد.

لا يجوز مسّها، مثل "كاد كام"، الذي يستخدمها أطباء الأسنان للتصوير البانورامي.. هي للعرض فقط، وأجهزة التصوير الطبقي المحوري في مشفى حلب، الناس تموت، وهي تتنظر شهورا، والأجهزة مغلفة في المستودعات.. أجهزة كثيرة لا يسمح للطلاب الذين سيتخرجون بالاقتراب منها.. أكبر مسافة يحلمون بها هي متر.. الكومبيوتر في ذروة اهتمام الرئيس المعلوماتي بها، قبل الاقتراب: في خدمة العلم كانت الشتائم صافية، احتقارٌ للأستاذ، طعامٌ وسخ، إهانة لمعتقدات الشعب. الفرز طائفي مقنّع في الحياة، لكنه سافر في الجيش، يبدأ الخطاب من رتبة علمية: هذا الجهاز لو تضرر فلن تستطيع أنت ولا أبوك ولا أمك ولا أجدادك من وقت آدم تعويضه وإيفاء ثمنه، فكيف سنتطور علميا؟

ويحكي الذين قضوا سنتين محروقتين في خدمة العلم أنهم عندما التحقوا بهذه الخدمة الظريفة، وجدوا أن العدو الإسرائيلي هو العِلم، فالضابط حاقد على صاحب كل رتبة علمية، أكبر شتيمة هي أن تقدر أحدا بلقب أستاذ. وأن بنادقهم كانت خالية، وكأنهم حرس رئاسي، وكانوا كل يوم ينظفون سبطانة الدبابة بمناديل نفيسة. للعلم، هي حلقة من مرايا كانت جائزتها كلب، وفيها مرافعة لياسر العظمة عن الفرق بين الإنسان والكلب في سوريا الأسد.

السيارة كانت ولا تزال حلما، وأعرف مديرين يديرون شركات سورية ضخمة، كانوا يستخدمون سيارات تعود إلى الثمانينيات وهم فخورون بها، ويتباهون على العمال والناس! سيارة قديمة، إصلاحات دائمة، سرقات.

أما أمريكا وإسرائيل، فتقتلانا بأسلحة ذكية، متطورة.. دول تقتل "ساكنا محليا" لا يحصل على خمسين دولارا بالشهر، بصاروخ ثمنه ربع مليون دولار، ولو منحوه "للساكن المحلي" لانتحر، وجنّبهم هذه الخسارة.

لم ينصف النظام شهداءه، فقد قدّم للذين دافعوا عن "حضن الوطن" عنزة، ثم صارت رزمة علب متة، ثم ساعة حائط. وبالعودة إلى الآلة المقدسة في سوريا، نلحظ حب جنود النظام للتعفيش والغسالات والثلاجات، وهي مستعملة نصف عمر، ربع عمر، وأمثالها في أوروبا ترمى في الشوارع، ومن هنا يمكن تفسير استخدام السارين، بأنه يقتل البشر، ويحافظ على الغنائم.

بعد اقتحام البيوت السورية، كان المقتحمون يقولون لأهل البيت: عندكم براد وتقومون بثورة، أو عندكم غسالة، وتتظاهرون: أهدافنا: غسالة، براد، اشتراكية.

لنتذكر عملتنا القديمة، سنجد فيها أبطال سوريا، مثل صلاح الدين الأيوبي، وآثار الماضي، ومن يدري، قد نجد في عملة السوريين يوما، عشتار، وهي تحمل برميلا بدلا من جرة الماء، ومكتوب بجانب البرميل، كما في رسوم الإيضاح والشرح: "أس 500". كنا نحفظ في المدرسة هذا البيت الشعري، الذي دمر بالبراميل أيضا وعفّش أثاثه في سوق السنّة:

العلم يبني بيوتا لا عماد لها... والجهل يهدم بيت العز والكرم

فكيف إذا تآزر الجهل والحقد معا في جبهة واحدة، سعيا وراء التجانس المطلق في دولة العربدة الصامدة، التي حولت النفايات إلى قادة وأبطال؟!