قضايا وآراء

الأقلية العربية بألمانيا في مواجهة عنصرية جديدة

1300x600
انطلقت في ألمانيا منذ خمسة أشهر، وإلى يومنا هذا، حملة إعلامية شعواء استهدفت في بدايتها إخواننا السوريين من الوافدين الجدد، ولا سيما الشباب منهم الذين ساهموا بشكل بارز في إنجاح المظاهرات العربية التي شهدتها ألمانيا في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، احتجاجا على قرار ترامب بنقل سفارة بلده إلى القدس المحتلة، حيث اتهمتهم بعض وسائل الإعلام الألمانية بمعاداة السامية بسبب تنظيمهم الناجح لتلك الاحتجاجات، رغم صغر حجمها، ما لبث أن استغلها اللوبي الصهيوني القوي في هذا البلد الأوروبي لتخويف يهود ألمانيا من هؤلاء القادمين الجدد، على الرغم من أن غاية تلك الاحتجاجات كانت بيّنة: الاحتجاج على القرار الأمريكي المكرّس للاحتلال. فكيف يُعقل أن يكون هذا الفعل الاحتجاجي السلمي تعبيرا عن معاداة لليهود، سواء في ألمانيا أو في خارجها؟

على الرغم من هذا التناقض، لم تنته هذه الحملة الإعلامية بنهاية تلك الاحتجاجات العفوية، بل ازداد زخمها، حيث امتدت إلى معظم وسائل الإعلام الألمانية، ناجحة بذلك في صناعة صورة سلبية جديدة، ليس فقط عن الوافدين العرب فحسب، بل أيضا عن الأقلية العربية والمسلمة بمختلف أطيافها، تتمظهر فيها هذه الأقلية على أنها هي وحدها مُعادية للسامية، لمجرد ممارستها لحقها القانوني في التظاهر السلمي على حدث خارجي. فقد ذاعت بسبب هذه الحملة تعابير جديدة من مثل "المعاداة الإسلامية للسامية"، بل غير مسبوقة، مثل "المعاداة المُستوردة للسامية"، زعما أن معاداة السامية هي ظاهرة دخيلة وغريبة عن المجتمعات الأوروبية، بما فيها المجتمع الألماني، وأنها قد جُلبت مع المهاجرين العرب والمسلمين قدماء وجدد، في نكران واضح لأن معاداة السامية بالذات هي ظاهرة غربية بالأساس، يتم الآن إسقاطها حصرا على "العربي" و"المسلم" دون غيرهما، رغم أنه من المعروف أن معاداة السامية تعتبر تقليديا جزءا لا يتجزأ من الثقافة الغربية الشعبية لأسباب دينية، الشيء الذي لا نجده بنفس الحدية في الحضارة الإسلامية التي عاشت فيها الأقلية اليهودية محمية، لهذا يُقرّ دافيد رنان، بأن مسألة كراهية المسلمين لليهود ليست موروثا ثقافيا بمفهومها الغربي، بمعنى أنها ليست معاداة لليهود، بل كانت ردة فعل على احتلال فلسطين.

فظاهرة معاداة السامية في ألمانيا ليست "مستوردة"، كما تروم هذه الحملة التشويهية تكريسه في المجال التداولي العام، بل هي عنصرية داخلية مُؤْرقة يتعين التعاطي معها (إلى جانب معاداة المسلمين) بحزم، ولا سيما في هذا البلد الأوروبي الذي لم تنته فيه معاداة السامية بانتهاء المرحلة الهِتلرية. ففي زمننا الراهن لا يزال هناك 20 في المئة من المواطنين الألمان ممن لديهم أفكار وأحكام معادية للسامية. من جهة أخرى، تكفي الإشارة هنا إلى أنه قد سُجّل في العام الماضي ما يقرب من 2219 اعتداء على الوافدين العرب الجدد وحدهم. كما تم تسجيل 950 اعتداء على المسلمين، مما يعكس بوضوح حجم وخطورة العنصرية ضد "الآخر"، فقط بسبب اختلاف انتمائه الديني والعرقي عن الأغلبية السائدة.

ومثلما أن معاداة المسلمين واليهود هي أشكال تقليدية من العنصرية الغربية، فإن استهداف فئة مجتمعية محددة دون غيرها بتهمة معاداة السامية، بهذا الشكل التعميمي، هو في حد ذاته عنصرية جديدة وغير مسبوقة، تضاف إلى ما يُمارس على الأقلية العربية والمسلمة من أصناف التمييز والإقصاء، ولا سيما بعد سنة 2015، سنة اللجوء العربي نحو أوروبا الغربية، وبخاصة ألمانيا، التي استطاعت فيها هذه الحملة الادعائية من الدفع نحو تشكل نقاش عمومي حول هذه الظاهرة، التي لم يعد يُنظر إليها من كونها بالأساس ظاهرة يمينية وشعبوية تستمد زخمها باستمرار من الموروث الشعبي فحسب، بل بالأساس من كونها ظاهرة وافدة وجديدة، وهذا ما يعكس مفارقة هذا النقاش العمومي الذي صار يكرّس بدوره للصورة النمطية السلبية عن الآخر "الشرقي" حتى لو كان مواطنا ألمانيا، فقط لكونه ذا خلفية عربية أو مسلمة. فقد صار ذلك في أيامنا هذه كافيا لإلصاق تهمة معاداة السامية بصاحبها إن أظهر موقفا منحازا أخلاقيا للقضية الفلسطينية.

ومن العنصرية أيضا أن تطالب أحزاب ألمانية وازنة (غير يمينية)، بترحيل الوافدين الجدد الذين قد تثبت "معاداتهم للسامية". وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن أن يسري هذا الإجراء أيضا على المواطنين الألمان من ذوي خلفية مسيحية في حالة ما ثَبُت ارتكابهم لأعمال إجرامية بدافع معاداتهم للسامية؟ وإذا كان الجواب: لا، أوليس إذن هذا الكيل بمكيالين عنصرية مؤسسية تُمارس حصرا على فئة مجتمعية دون غيرها بناء على إسقاطات نمطية مُتخيلة؟ أو ليس من الأعقل مكافحة المعاداة الغربية للسامية وللمسلمين على حد سواء، بوصفها ظواهر داخلية مهددة لسلم هذه المجتمعات التعددية، وذلك عن طريق التوعية المجتمعية وبخاصة في الحياة المدرسية، بل وفي الواقع اليومي المَعيش، ولا سيما بين الفئات الشعبية في معظم الدول الأوروبية؟ أم إن الاتهام بمعاداة السامية قد صار تهمة جمعية "جاهزة" ضد الأقلية العربية المسلمة، إن هي "تجرأت" مجددا على نصرة الحقوق الفلسطينية ولو بالتظاهر السلمي، وبخاصة مع اقتراب موعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، الذي حدده ترامب في هذا الشهر بالذات، الذي يصادف شهر رمضان المعظم؟