قضايا وآراء

مُقاربةُ "الأمازيغية" في بلاد المغرب

1300x600
ليست الأمازيغية تعبيرا عن أقلية أو طائفة أو "محموعة شتات (Diaspora)، إنها مكوِّنُ أصيل من مكونات المجتمع المغربي. يُجمِعُ المغاربة على أن "الأمازيغ" هم السكان الأصليون، وأنهم استقروا بهذه البلاد منذ آلاف السنين، بيد أنهم لا يُشكّْكون في أن منذ دعاء عقبة بن نافع الشهير، واستقرار الإسلام في هذه الربوع، لم يعُد التمييز ممكنا بين "الأمازيغي" والعربي، فالإسلام الذي قدِم إلى هذه الديار فاتحا، وحاملا رسالة التوحيد، مَنحَ سكان المغرب المشروعية التي كانوا يتوقون إليها. وأكثر من ذلك، احتضن "الأمازيغيون" "إدريسَ الأول"، مؤسِّس الدولة المغربية، وساهم قادتهم في نشر الإسلام في الأندلس، وبَنىَ زعماؤهم أقوى الدول والولايات في القرون الفاصلة بين العاشر والثالث عشر الميلادي )المرابطون والموحدون).

يعتبرُ بعضُ المغاربة وكثيرٌ من المراقبين الأجانب؛ "الأمازيغية" قُنبلَة موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت وحين، حُجَّتهم في ذلك أنها أُدمجت في الإسلام بحدِّ السيف، وتمَّ تعريبُ لسان الأمازيغيين بالقوة، وأُطمِسَت هُويتهم وكل ما يرمزُ إلى شخصيتِهم. والحال، أن دعما متناميا عَضَّدَ هذا الاعتقاد من جهات فرنسية وأمريكية، استنادا إلى اعتبارات سياسية واستراتيجية متنوعة. فالفرنسيون ما انفكوا يستبعدون عروبةَ الأصل الأمازيغي، ويرجحون انحدارَهُ من أوروبا أكثر من جزيرة العرب، لذلك، يبررون دعمَهم للأمازيغية من زاوية سعيهِم إلى إعادة ربط الفرع بالأصل.. نلمس ذلك في أعمال العديد من مراكز البحوث والدراسات ذات الصلة، لعل أقدمها "معهد الدراسات البربرية في باريس"، في حين يرجع اهتمام الأمريكيين المشتغلين في حقل الدراسات الأنثروبولوجية واللسانية والاجتماعية؛ إلى ما يمكن تسميته "عقدة الذنب" حيال ما حصل للجماعات الأصلية في أمريكا، حيث بُنيت الولايات المتحدة الأمريكية على أنقاض تدمير الأجناس الأصلية، وحتى التي تمكنت من الاستمرار حيَّة أُقصِيت من دائرة الترقي في النسيج الاجتماعي الأمريكي. فالبحث الاجتماعي الأمريكي يجد ضالَّتَهُ في التعاطي مع الأمازيغية في أفق التكفير عن الذنب الذي اقترفه تاريخُه؛ في اجتثاث أعراق من موطنها الأصلي وتحويلها إلى أقليات لا قيمة لها في محيط بشري مختلط، متعدد ومتنوع الأعراق (Melting Pot).

 يمكن القول إن جزءا من "الأمازيغ" المغاربة تفاعل مع هذه الدعوة، وسعى إلى صياغة خطاب ينهل بعضَ شعاراتِه ومقولاتِه من هذه المصادر. فضمن هذا الأفق، ذهبت كتابات بعض الأمازيغيين إلى التشكيك في أن يكون استقرار الإسلام في بلاد المغرب مبنيا على الحوار والإقناع، مُستدِلّين بمقاومة كل من "الكاهنة" و"كُسيلة". كما نحَت منحى استعداء اللغة العربية، ومقاطعة التحدث والكتابة بها، بل الاستنكاف حتى عن تسمية الأشخاص والأَعلام والأماكن بأسمائها. وقد قادها ذلك بالنتيجة إلى استعداء الإسلام، باعتبار الصلة الناظمة بينه وبين العربية. غير أنه مقابل هذا الغُلُوُّ في النظر إلى واقع القضية الأمازيغية وأفق معالجتها، هناك تيارات سعت إلى صياغة خطاب أكثر توازنا من حيث المنطلقات والأبعاد، وهو ما عبرت عنه الجمعيات الثقافية الأمازيغية منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، حيث نهض خطابها على فرضية أن النخبة الوطنية، التي قادت مشروع بناء الدولة بعد الاستقلال، لم تضع القضية الأمازيغية ضمن أولويات برامجها، وأنها، باسم العروبة والإسلام، همَّشت المكون الأمازيغي في مسلسل بناء الدولة الوطنية الحديثة، إن على صعيد الاعتراف بالأمازيغية كلغة وطنية إلى جانب العربية، أو على مستوى إدماج الثقافة الأمازيغية ضمن النسيج الثقافي الوطني العام. ويدعّم هذا الخطاب قولَهُ بالإشارة إلى أن النخبة الوطنية، بحكم انتمائها إلى مجمل الحواضر والمدن الكبرى، همَّشت البوادي والمدن الصغرى، حيث يمثل العنصر الأمازيغي الكتلة الديمغرافية الأكثر عددا من حيث شريحة السكان.

لذلك، شدَّد مناصرو هذا الخطاب على أولوية إعادة الاعتبار للأمازيغية لغة وثقافة وتراثا، مُستدلِّين بنتائج التقدم الحاصل في العديد من الحقول العلمية، التي لمسَوا فيها ما يَدعَمُ مطلبَ رفع اليد عن الأمازيغية وتيسير سبُل إدماجِها في النسيج المجتمعي لبلاد المغرب. إلى هذا الحد كان خطاب الأمازيغية مقبولا ومطلوبا ومدعوما من طرف كل مُكونات المجتمع المغربي، باعتباره رهانا ثقافيا يروم إقرارَ الاعتراف بالأمازيغية واستعادة هويتها كاملة غير منقوصة، بيد أنه منذ مستهل عِقد التسعينيات، وفي سياق الانفتاح السياسي الذي شهده المغرب، انتقلت الحركة الأمازيغية إلى مستوى آخر من النظر إلى ذاتها، فقد وجهت نداء عام 1991، أردفته بخلق نسيج جمعوي تنسيقي بين عشرات الجمعيات سنة 1994، لتوجه مذكرة إلى الحكومة والبرلمان تطالب فيها بتعديل ديباجة الدستور، ليصبح التنصيص فيها على أن الأمازيغية لغةٌ وطنيةٌ إلى جانب العربية، ويدمج تدريسها ضمن مؤسسات التعليم، ويكون لها حصة في وسائل الإعلام.

مقصد القول، إن الخطاب الأمازيغي الذي بدأ رهانا ثقافيا يروم إعادة الاعتبار للهوية الأمازيغية، تحول إلى خطاب يحمل أكثر من منـزلق بالنسبة للوحدة الوطنية المغربية. ونعتقد أن مبادرة إحداث "المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية" في كانون الثاني/ يناير 2001؛ أعاد القضية الامازيغية إلى الوسط، أي إلى دائرة الاعتدال. فقد أنيطت بالمعهد وظيفة التفكير في القضية الأمازيغية لغة وثقافة وتراثا، على أسس علمية وليس على اعتبارات أيديولوجية أو دَعَوية، على اعتبار أن الأفق الأجدى للمغاربة، عربا وأمازيغا، ليس في إعادة طرح الأسئلة حول تاريخ تكوُّن وحدتهم الوطنية العربية الأمازيغية والإسلامية، بل في بناء مجتمع على تعاقد جديد تكون الأولوية فيه لتحصين التنوع الثقافي والإثني وصقل عطاءاته، بالديمقراطية، والتكافؤ الاجتماعي، والتسامح، واحترام شرعية التعددية والاختلاف، بل إن تكريس الدستور المغربي الجديد (2011) الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية، قد طوى صفحة من الصراع حول الاعتراف بالأمازيغية مكونا أصيلا في الهوية المغربية المتعددة والمتنوعة.