كتاب عربي 21

الجامعة والمجمع.. قواسم وقواصم مشتركة

1300x600
ما حملني على "التحامل" على جامعة الدول العربية، في آخر مقالين لي في "عربي21"، بل ما جعلني أتذكر أن هناك جسما يحمل ذلك الاسم، هو ما ورد في نشرة إخبارية في قناة النيل التلفزيونية المصرية، عن الجهات التي ستراقب الانتخابات الرئاسية المصرية المرتقبة في آذار/ مارس المقبل.

ينص قانون تلك الانتخابات، على أن تكون الهيئات التي ستتولى مراقبتها، ذات خبرة في هذا المضمار، ودعك من أن من بين تلك الهيئات منظمات تحمل اسم مدن مصرية صغيرة مثل سوهاج، لعدم تقدم منظمة ذات صدقية وموثوقية للقيام بتلك المهمة، إما لأنها استشعرت بعد استقراء الواقع، أن الانتخابات ستكون استفتاء نتيجته محسومة سلفا، أو لأنه تم منعها رسميا من القيام بالمراقبة.

دعك من كل هذا، ومن أن الجهات التي أعلنت سوء ظنها بالترتيبات المتعلقة كافة بتلك الانتخابات، ومُخْرَجاتها المتوقعة، هي ذات الباع الطويل في مراقبة الانتخابات في مختلف الدول، وأصدرت من ثم بيانات تتبرأ فيها من انتخابات الرئاسة المصرية في أواخر الشهر المقبل (الاتحاد الأوربي، الخدمة الدولية لحقوق الإنسان، روبرت ف. كينيدي لحقوق الإنسان، سوليدار، الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان، لجنة الحقوقيين الدولية، مراسلون بلا حدود، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، التحالف الدولي لمشاركة المواطن CIVICUS، هيومن رايتس فيرست، هيومن رايتس ووتش، يوروميد رايتس).
 
دعك من كل ذلك: ما هي صلة الجامعة العربية بالديمقراطية؟ وما خبرتها في مراقبة انتخابات حقيقية حتى تكون في طليعة مراقبي الانتخابات المصرية الرئاسية على ذمة القناة التلفزيونية المصرية (النيل)؟ الإجابة على هذا السؤال هي أن "الفاضي يعمل قاضي".
 
تذكرني جامعة الدول العربية بجسم عربي آخر عريق، هو مجمع اللغة العربية الذي تم الإعلان عن مولده في القاهرة في  13 من كانون الأول/ ديسمبر من عام 1932م، في عهد الملك فؤاد الأول، على أن يضم عشرين عضوًا من العلماء المعروفين بتبحرهم في اللغة العربية، نصفهم من المصريين، ونصفهم الآخر من العرب والمستشرقين.
 
وكانت مهمة المجمع "أن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، وملائمة -على العموم- لحاجات الحياة في العصر الحاضر". 

وذلك بأن يحدد -في معاجم أو تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق- ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب، وأن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات، وتغير مدلولاتها".

وتم تقسيم تلك الأعباء على عدة لجان هي: لجنة أصول اللغة/ لجنة الألفاظ والأساليب/ لجنة اللهجات والبحوث اللغوية./ لجنة الأدب. لجنة إحياء التراث العربي/ لجنة المعجم الوسيط. 

(صدرت منه عدة طبعات)/ لجنة علم النفس والتربية/ لجنة الفلسفة والعلوم الاجتماعية/ لجنة التاريخ/ لجنة الجغرافيا/ لجنة القانون/ لجنة المصطلحات الطبية/ لجنة الكيمياء والصيدلة/ لجنة علوم الأحياء والزراعة/ لجنة الاقتصاد/ لجنة الجيولوجيا/ لجنة النفط./ لجنة الهيدرولوچيا (علم المياه)/ لجنة الفيزيقيا "الفيزياء"/ لجنة الهندسة/ لجنة الرياضيات/ لجنة المعالجة الإلكترونية/ لجنة ألفاظ الحضارة ومصطلحات الفنون/ لجنة الشريعة/ لجنة "معجم لغة الشعر".

اعتذر للقارئ لأن الفقرتين أعلاه أشبه بـ"الفاتورة"، ولكنني تعمدت إيراد محتواهما بالتفصيل الممل، كي يدرك (القارئ) أن المجمع هذا يحلم بجمهورية أفلاطون لغوية. 

فنحن لا نسمع له أو عنه ما يفيد أنه يقوم بأي من تلك المهام الجسام، ولا أعرف له إنجازا تم تداوله بتقدير وافر سوى المعجم الوسيط، وهو قاموس ضخم وسهل الاستخدام.

وللمجمع فروع في عدد من الدول العربية، وصدرت عن بعضها كتب لم تجد حظها من التداول، إما لأن محتوياتها "ترف" في تقدير القراء، أو لأن تلك الفروع لا تملك أدوات التوزيع والذيوع لما تُصْدِره.

ولكن، وبعكس الجامعة العربية، ذات المخصصات المالية المليونية، فإن مجمع اللغة العربية قليل الحيلة ماديا، ومن ثم فإن أعضاءه يلتقون بحسب ما تسمح به "الظروف"، ويبحثون قضايا كتلك التي تتناولها ما صار يعرف بـ"مؤتمرات حوار الأديان"، حيث يلتقي العلماء والشيوخ والكهنة من عدد من الملل والنحل، ليشرح كل طرف كيف أنه "متسامح وقادر على التعايش مع الديانات الأخرى" ثم يدعو لتعزيز مثل ذلك التعايش.

وفي التحليل الأخير، فإن مؤتمرات حوار الأديان، مجرد منابر كي يثبت ممثلو كل "ديانة" أن عقيدتهم هي الأكثر سماحة، وتصدر عنها بيانات لا تحتفي بها سوى صحف قليلة، ولا قيمة لتلك البيانات، لأن تلك المؤتمرات أصلا صفوية/ نخبوية، ولا تتنزّل مقرراتها لعامة الجمهور، والعوام في كل مكان هم الأقل إدراكا حتى بتعاليم دياناتهم، والأقل تسامحا مع من يخالفونهم العقيدة.

ولا أعرف لمجمع اللغة العربية إنجازا يشجع على تعريب مناهج ما يسمى بالعلوم الأكاديمية الحديثة، لأنه ظل معنيا وعلى مدى عقود طوال بـ"قُل ولا تقُل"، لتمسكه بـ"أصولية/ طهرانية" لغوية تمنعه من ترقية كلمات دارجة مشتركة في عاميات اللغة العربية الى فصيحة، كما يفعل قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية سنويا.

حاول المجمع مجاراة قاموس أوكسفورد ذاك، وشكل لجنة المعجم الكبير في عام 1970، وبعد ثمان وثلاثين سنة من الجهد، أي في عام 2008 كان المعجم قد زحف من الهمزة إلى الكلمات التي تبدأ بحرف الذال.

ولكن ما يبدو على أنه عجز من المجمع، ليس من قبيل "نقص القادرين على التمام"، بل هو قعود نجم عن قلة الحيلة المادية، فأعضاء المجمعات الفرعية منها والمركزي، أقرب الى المتطوعين، بمعنى أن عضوية أي مجمع لا تعود على العضو بمكافآت وحوافز ومخصصات وبدلات إلخ

وليس بمقدر أي مجمع لغوي وضع ميزانية سنوية في ضوء احتياجاته، لأنه يعتمد على صدقات حكومية بنظام "عطية المُزيِّن"، التي كانت الأسلوب السائد للتعامل مع الحلاق، قبل عصر تسعير قص الشعر واللحية، أي أن حكومة ما، تقرر منح مجمع ما، مبلغا ما، ليس في ضوء تقديرات محسوبة، بل من باب "إبراء الذمة"، لأنها "تعهّدت" بذلك.

وأختتم مقالي هذا بالاعتذار لـ"مجمع اللغة العربية"، لأنني قَرَنت بينه والجامعة العربية التي تطرح ولا تجمع، فقلبي على المجمع، وأتمنى أن تتوفر له الموارد كي ينجح في منع تفشي اللغة العربيزية، التي تُعرف أيضا بالـ"أرابيش".