كتاب عربي 21

لا يريد جيران اليمن التوقف عن العبث!

1300x600

ليس هناك معركة أخطر على أمن المملكة العربية السعودية من تلك التي تدور على حدودها الجنوبية، متصلة بالمعارك التي تحرق معظم الجغرافيا اليمنية، مخلفة وراءها مآسي لا حصر لها.. آلاف القتلى والجرحى، وملايين اللاجئين، وأوبئة تحصد المئات من الناس، وفقرا يعصف بأكثر من 80 في المئة من السكان.

ومع ذلك، هناك عبث لا يمكن تصوره، لم يستطع حتى غبار المعارك تغطيته. وجزء من هذا العبث؛ يتم تحت أنظار السلطة السعودية وبإراداتها، وبعضه نتاج التحول الدراماتيكي في هيكل السلطة والقرار، وبعضه يعود إلى الفساد المتأصل في بنية الدولة السعودية بسبب تعدد الرؤوس التي تتحكم بالقرار السعودي، على الرغم مما يبدو أنه اشتداد قبضة لا تزال الإمكانية المالية الكبيرة للدولة تُبقي عليه.

 

كان يمكن للمعركة المصيرية التي تدور حالياً على الأراضي اليمنية، وتحرق أجزاء من الحد الجنوبي للمملكة أن تكون مدخلاً مثالياً لإعادة صياغة العلاقة بين الشعبين الجارين


كان يمكن للمعركة المصيرية التي تدور حالياً على الأراضي اليمنية، وتحرق أجزاء من الحد الجنوبي للمملكة أن تكون مدخلاً مثالياً لإعادة صياغة العلاقة بين الشعبين الجارين، على أسس متينة من الثقة المتبادلة والإرادة المشتركة؛ لتحقيق شراكة متكافئة تستثمر الإمكانيات المتاحة للبلدين، وتساهم في تحقيق استقرارٍ مستدامٍ للدولة اليمنية، والإقرار بأحقية الشعب اليمني في إدارة شؤونه في إطار النظام الديمقراطي التعددي الذي توافق عليه هذا الشعب.

لكن ما نراه في الأفق لا يبشر بخير، فالمملكة ماضية في انتهاج سياسة خطيرة للغاية؛ هدفها إعادة إنتاج النظام المهترئ ذاته الذي دعمته ورعته في صنعاء طيلة العقود الماضية من عمر النظام الجمهوري، وشغل المخلوع علي عبد الله صالح الجزء الأهم من عمر هذا النظام، وأدى في نهاية المطاف إلى هذا المصير السيئ لليمن ولجيرانها.

 

المملكة ماضية في انتهاج سياسة خطيرة للغاية؛ هدفها إعادة إنتاج النظام المهترئ ذاته الذي دعمته ورعته في صنعاء طيلة العقود الماضية


إنه العبث، وليس سوى العبث الذي يتسيّد المشهد. ومن أمثلته الصارخة، ما كشفت عنه القوائم المسربة لأسماء شخصيات يمنية يفترض أنها شاركت في مؤتمر الحوار الوطني بالرياض، في أيار/ مايو 2015، وحصل كل مشارك فيه على 100 ألف ريال سعودي، أي ما يعادل 25 ألف دولار أمريكي تقريباً. ومن بين هذه الأسماء من لم يحضر أصلاً، وبعضها متوفى وبعضها ينتمي لجماعة الحوثي.

اللافت في هذه القوائم؛ أنها تشير بوضوح إلى أن المبالغ المسجلة في القوائم أعلى بمقدار الضعف من تلك التي يفترض أنها وصلت إلى الشخصيات المشاركة في مؤتمر الرياض، بما يعني أنها ضاعت في دهاليز اللجنة المعنية في عملية فساد واضحة لا تدين المشمولين بهذه القوائم، بقدر ما تدين الجانب السعودي نفسه.

من أوجه العبث الذي يحكم الموقف السعودي من اليمن، نشر هذه القوائم في توقيت كهذا، بما لا يعني سوى أن السعودية تفرط بحلفائها وتهينهم على رؤوس الأشهاد. ومع أن الكثير منهم جدير بهذه الإهانة، إلا أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: ما جدوى أن تقول في هذا التوقيت إنني منحتكم هذا المال الذي تعلم أنه تعرض للسرقة قبل أن يصل ما تبقى منه لليمنيين؛ الذين جاؤوا إلى الرياض ليوفروا الغطاء اللازم لحرب المملكة في اليمن، والتي تكاد أن تتحول إلى إحدى حلقات العبث القاتل بمصير اليمن والمملكة معاً؟

 

كان يفترض أن يتحول الجيش الوطني الذي دعمت الرياض تأسيسه إلى أحد أهم الإنجازات الإيجابية التي تحققت في خضم هذه الحرب، لكن هذا الجيش يتعرض اليوم لتحديات جوهرية


كان يفترض أن يتحول الجيش الوطني الذي دعمت الرياض تأسيسه - ويتركز معظمه في المحافظات الشمالية - إلى أحد أهم الإنجازات الإيجابية التي تحققت في خضم هذه الحرب، لكن هذا الجيش يتعرض اليوم لتحديات جوهرية، أخطرها عدم رغبة التحالف في تسليحه، وخصوصاً الأسلحة النوعية التي يمكن أن توفر تفوقاً حاسما على الحوثيين الذي وضعوا أيدهم على كل مخازن الجيش اليمني السابق.

ومن هذه التحديات، النفوذ الذي بات يتمتع به الجيش اللاوطني الذي أنشأته الإمارات في المحافظات الجنوبية. ومن التحديات أيضاً، المحاولات المستمرة لتحويل الجيش الوطني إلى اقطاعيات عسكرية للمراهقين من أبناء المشايخ؛ الذين كان آباؤهم طيلة الفترة الماضية خنجراً مسموماً في خاصرة الدولة اليمنية، أثخنها بالجراح، ومرَّغ كرامتها بالتراب، وأسلمها في نهاية المطاف إلى أعداء الوطن والتاريخ والعروبة.

 

من التحديات، النفوذ الذي بات يتمتع به الجيش اللاوطني الذي أنشأته الإمارات في المحافظات الجنوبية


لا يستطيع أي منا السكوت عن هذه الممارسات التي تكشف عن المزاج السياسي الذي يحكم الرياض في هذه المرحلة كما في كل المراحل السابقة، والذي يرى اليمن دولة ملحقة بالمملكة، ويتعين أن تخضع لسلطة يسهل التحكم بها.

حسنا، لقد جربتم كيف أن الاستثمار في إضعاف اليمن عبر إخضاعه للإقطاعيات المشيخية وللقيادات العسكرية الفاسدة والمشوهة، وإبقائه دولة لا تخضع لسيادة القانون بقدر ما تخضع لمراكز القوى المتصارعة.. جلب كل هذه الشرور التي تعصف بالبلدين، وكيف وفرت هذه السياسة ملاذاتٍ آمنةً لمن ترونهم اليوم جزءاً من جيش إيران الكبير في المنطقة.

 

متى ستتوقف الرياض عن هذا العبث الذي يهدد وجود الدولة السعودية؛ بقدر ما يمنع قيام دولة حقيقية آمنة ومستقرة في الجوار الجنوبي للمملكة؟


إن الإصرار على تكرار التجارب السابقة عبر تكريس الإقطاعيات العسكرية التي تتوزع في شكل أولوية عسكرية لأبناء المشائخ، هو انتحار؛ لأن من تراهن عليهم المملكة استنفدوا دورهم، بعد أن حرثوا التربة اليمنية لنحو خمسة عقود من العهد الجمهوري المنهك، لتزرع فيها إيران أدواتها، وتفرض سيطرتها، وتخلق تحديات أمنية واستراتيجية هائلة للدولة اليمنية ولجيرانها، وللمنطقة بشكل عام.

إنه وضع خطر للغاية، ويعيد فرض السؤال الملح: متى ستتوقف الرياض عن هذا العبث الذي يهدد وجود الدولة السعودية؛ بقدر ما يمنع قيام دولة حقيقية آمنة ومستقرة في الجوار الجنوبي للمملكة؟