كتاب عربي 21

ترامب يقوض مؤسسة الخارجية الأمريكية.. قتل السياسة

1300x600
قرار ترامب سيئ الصيت، بإعلان "القدس عاصمة لإسرائيل"، والذي يتعرض إلى حالة رفض عالمية تجسدت في قرار الجمعية العامة بأغلبية ساحقة، رفضا لمنطق "الدولار مقابل القرار"، وتحويلا للقدس بوصفها قضية عربية- إسلامية؛ إلى قضية إنسانية، إنما هو محطة أخرى في مسار انطلق منذ تعميد ترامب في البيت الأبيض، يتجاوز المنطقة العربية، ويتعلق بتقويض حقيقي لمؤسسة تمثل أحد أهم أركان الدولة في الولايات المتحدة أي الخارجية الأمريكية.

من المعروف أن أحد أهم أركان السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة؛ هو تجنب فرض أمر واقع يستبق مفاوضات "الحل النهائي"، وعلى هذا الأساس امتنعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 1995 عن تنفيذ قرار الكونغرس بنقل السفارة إلى القدس، وذلك أساسا بضغط متواصل من الخارجية الأمريكية. وقد نقلت رويترز عن مصادر موثوقة بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر: "وقال مسؤولان أمريكيان آخران اشترطا عدم الكشف عن هويتهما إن الأخبار عن خطة الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل قد أثارت مقاومة من مكتب شؤون الشرق الأدنى بوزارة الخارجية، الذي يعنى بالمنطقة. وقال أحد المسؤولين إن "كبار المسؤولين في الوكالة الوطنية للطاقة وعدد من سفراء المنطقة أعربوا عن قلقهم العميق إزاء القيام بذلك"، قائلا إن المخاوف تركز على "الأمن". وكان دانيال بنيامين، المسؤول الأمريكي السابق لمكافحة الإرهاب، والآن في جامعة دارتموث، لديه رسالة بسيطة: "هذا يلعب بالنار".

الحقيقة أن إدارة ترامب كانت تتوقع أنها ستكون في صدام مع المؤسسة العريقة التي تمثلها الخارجية الأمريكية، والتي شغل منصبها مؤسسو الدولة وأهم رموزها طيلة قرون، بدءا من بنجامين فرانكلين. ولهذا اشتغلت بشكل حثيث على تقويضها. وقد نشرت دورية "فورين أفيرز" المرموقة أول مقال موثق ومعمق حول السياسة الممنهجة لترامب لضرب مؤسسة الخارجية الأمريكية في تموز/ يوليو الماضي. 

وتحدثت فيه خاصة عن سعي وزير الخارجية الأمريكي لإحداث قسم خاص من موظفين ومستشارين جدد؛ يعوض طاقم الخارجية الأمريكية: "لم يكن بوسع موظفي وزارة الخارجية إلا أن يلاحظوا أرفف المقصورات التي تصطف في ممر الطابق السابع. وبالنسبة للدبلوماسيين في القسم، كانت آخر علامة على "الإمبراطورية" التي يبنيها كبار مساعدي وزير الخارجية ريكس تيلرسون. هناك حاجة إلى المقصورات لاستيعاب العشرات من الغرباء يجري تعيينهم للعمل في مكتب موسع بشكل كبير من المفترض أن يقدم المشورة لتيلرسون. ويرى موظفو الخدمة الخارجية هذا التوسع باعتباره إدارة موازية".

وسيعمل الموظفون الجدد، وفقا لما ذكره العديد من المسؤولين لـ"فورين بوليسي"، لمصلحة موظفي تخطيط السياسات، وهو مكتب صغير أنشئ فى عام 1947 لتقديم المشورة الاستراتيجية لوزير الخارجية، وعادة ما تتراوح تركيبته بين 20 و25 شخصا. وقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية ودبلوماسي متقاعد مؤخرا لـ"فورين بوليسي" إن "تيلرسون لديه خطط لمضاعفة حجم هذا القسم مرتين أو ربما ثلاثة أضعاف، حتى في الوقت الذي يقترح فيه إعادة تنظيم واسعة وتخفيضات جذرية للقوة العاملة في وزارة الخارجية".

يواصل مقال الفورين بوليسي مشددا على الدور المريب لشركة خاصة استقدمها تيلرسون في عملية إعادة الهيكلة هذه: "جند تيلرسون في أوائل الربيع شركة استشارية خاصة صغيرة اسمها "إنسيغنيام"؛ لإجراء مسح على مستوى الإدارة على نطاق الموظفين. وأجرت (المؤسسة) استطلاعا استنكره العديد من المسؤولين". ويعكس هذا التوجه عقلية رجل أعمال في شركة نفطية، مثلما هو الحال مع تيلرسون، وهي غير متطابقة مع العقلية الإدراية الديبلوماسية.

من جهة أخرى، بينت إحصائيات نشرت في بداية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر؛ أن "الولايات المتحدة فقدت 60 في المئة من سفرائها منذ كانون الثاني/ يناير، وفقا لرئيس نقابة تمثل الموظفين الديبلوماسيين".

وكتبت باربرا ستيفنسون، رئيسة رابطة الخدمات الخارجية الأمريكية وسفيرة الولايات المتحدة السابق لدى بنما، في مذكرة إلى الأعضاء؛ أن صفوف القيادة الديبلوماسية "تستنزف بسرعة مذهلة". ويعرب المسؤولون عن قلقهم إزاء سلسلة من مغادرة دبلوماسيين رفيعي المستوى في وزارة الخارجية، مع تحذير رسمي سابق بأن "وجود الكثير من الشواغر في الأماكن الأساسية يعد كارثة تنتظر حدوثها".

وقالت دانا شل سميث لصحيفة "نيويورك تايمز": "هؤلاء الناس إما لا يعتقدون أن الولايات المتحدة يجب أن تكون رائدة عالميا، أو أنها غير كفؤة تماما". وكانت سميث سفيرة في قطر حتى استقالتها في حزيران/ يونيو. كما أفادت التقارير أن مساعدي تيلرسون ضربوا التنوع العرقي للطاقم الديبلوماسي، بإقصاء معظم الديبلوماسيين الأفارقة الأمريكيين واللاتينيين البارزين في الوزارة.

وصرحت السفيرة السابقة لدى ليبيريا ووزيرة الشؤون الأفريقية، ليندا توماس-جرينفيلد، لصحيفة التايمز: "إنني أشعر بالاستهداف كأمريكية أفريقية.. أشعر بأني مستهدفة كمهنية".

إليزابيث سوندرز، الأستاذة بجامعة جورج واشنطن، تقارن الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب الهشة بشخص ليس لديه تأمين صحي. وتقول: "حياتك ربما تكون على ما يرام - حتى النقطة التي تصاب بالمرض. ونظرا للأزمات في أماكن متنوعة مثل أوكرانيا وسوريا وفنزويلا، فإن العالم على الأقل بدأ في تطوير السعال".

قضية نقل السفارة إلى القدس هي اختبار جدي لمحاولة التقويض هذه. والإهانة التي تلقتها ممثلة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة؛ مدوية. لكنها لن تثني ترامب عن خطته في استبدال الإستبليشمانت (المؤسسة).. لكن هذه اللقمة تبدو أكبر بكثير من فم ترامب.