كتاب عربي 21

فرصة لإنقاذ القدس.. فهل تعتبر القيادة؟

1300x600

من المؤكد أن القيادة الإسرائيلية، مثلها مثل إدارة الرئيس ترامب، قد صدمت بنتائج التصويت على مشروع القرار التركي اليمني الخاص بالإبقاء على وضعية مدينة القدس دون تغيير. وكما جاءت ردود فعل ساكن البيت الأبيض متشنجة غاضبة، حيث تضمنت تهديدا لعشرات الدول بحرمانها من المساعدات الأمريكية، بما في ذلك دول عرفت بصداقتها للولايات المتحدة، مثل المغرب وتونس على سبيل المثال، فقد انهال مندوب حكومة نتنياهو على الأمم المتحدة وهياكلها وأعضائها؛ بالغمز واللمز والانتقاد الذي بلغ حد السخف، عندما زعم بأن الدول التي اعترضت على قرار ترمب " ليست إلا دمى تحركها القيادة الفلسطينية"! وقلب الآية بقوله: "من المخجل أن يحصل ما يحصل اليوم، ومن المخجل أن يعقد هذا الاجتماع".. كل ذلك لمجرد كون هذه الدول قد عبرت عن وقوفها إلى جانب القرارات الدولية، ولم توافق على تزوير الواقع والتاريخ، وتسليم القدس لقمة سائغة للصهاينة.

لا شك في أن ما حدث خلال ذلك التصويت يمثل حدثا تاريخيا لا يمكن الاستهانة به. فالرئيس ترامب وجد نفسه معزولا، وبسبب قراره المتسرع والخاطئ؛ ارتدت الدبلوماسية الأمريكية إلى الخلف، ولم تتمكن من إقناع العالم بأن الولايات المتحدة هي الأقدر على القيادة ورعاية أزمة الشرق الأوساط الجوهرية ممثلة في قضية فلسطين. لقد فقدت واشنطن صفة "الراعي"، ولا شك في أن أبا مازن كان مدركا لما يقول؛ عندما صرح بأن أمريكا "لم تعد وسيطا نزيها في القضية الفلسطينية". لهذا عليه أن يتذكر جيدا هذه الكلمات المعبرة عن خطورة المرحلة.

قد يكون هذا الحدث من بين أهم الأخطاء الفادحة التي ارتكبها ترامب منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. لا يعني ذلك أن رؤساء أمريكا السابقين كانوا أقل تعاطفا مع إسرائيل، لكن جميعهم، بدون استثناء، لم يسرعوا الخطى نحو حسم مسألة شديدة الحساسية والخطورة تتعلق بمستقبل القدس؛ بمثل هذا الارتجال والحماقة.

 

قد يكون هذا الحدث من بين أهم الأخطاء الفادحة التي ارتكبها ترامب منذ توليه رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية


وجه العالم كله تقريبا رسالة واضحة لهذا الرئيس المتعالي على الجميع؛ يقول نصها وفحواها "ما هكذا تعالج الملفات الحساسة والمعقدة، إذ للدبلوماسية لغتها وحساباتها الدقيقة وأدواتها الخاصة جدا". أما لغة الفرض والتهديد بالقوة فإن نتائجها محدودة، وآثارها عكسية، مهما طال الزمن وكثرت التضحيات.

هذا الوجه المضيء للحدث، لكن للميدالية وجه آخر. إذ هناك سبع دول انحازت إلى أمريكا وإسرائيل؛ خوفا من العقوبة، بحكم محدودية تأثيرها على الصعيد الدولي، في حين احتفظت 35 دولة أخرى بأصواتها؛ حرصا منها على الإبقاء على الخيوط التي تربطها بواشنطن. وهذا يعني أن جهودا إضافية لا بد من أن تبذل في المستقبل القريب، حتى لا يتحول المحتفظ برأيه إلى  بلد مساند للاستعمار الاستيطاني الصهيوني. كما يجب التركيز خلال المرحلة القادمة؛ على تشجيع هذه الأغلبية الواسعة من الدول، وفي مقدمتها الدول الإسلامية، على القيام بخطوة أخرى نحو الأمام؛ بأن تعترف بالقدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين، وأن تعمل هذه الدول أيضا على الاعتراف بهذه الدولة، وأن  تنقل سفاراتها إليها؛ لأن ذلك هو الرد الطبيعي والوحيد على العنجهية الإسرائيلية التي لا تعترف بحقوق ولا بقوانين.

 

لا يمكن أن تواصل القيادة الفلسطينية العمل بوسائلها القديمة؛ التي لم تعد صالحة في ظل كل هذه المتغيرات


ما حصل انتصار مهم على الصعيد الرمزي، لكنه انتصار مهدد وهش إذا لم يتعزز بنسق سياسي تصاعدي، يكون محميا بإرادة شعبية قوية لإفشال المخطط الاستيطاني المرشح، لكي تتسارع وتيرته، من خلال تكثيف بناء المستوطنات، وتهويد ما تبقى من مدينة القدس عبر هدم البيوت والمحلات وتعميق، وإطلاق يد الغزاة من أقصى اليمين الديني، واستعمال كل الوسائل الظالمة وغير القانونية من أجل إبعاد أبناء القدس عن مدينتهم والتنكيل بهم وتهجيرهم. المعركة كانت ولا تزال معركة التحكم فيما تبقى من الزمن. من يربح هذه المعركة على الأرض؛ فإنه سيضمن إرساء خارطة جديدة قد يصبح من المحال رفضها.

أجمعت 138 دولة على عدم الخضوع للإرادة الأمريكية، رغم حجم التهديدات التي أعلن عنها ترامب، إلا أن التضامن الذي جسده الفلسطينيون على الأرض كان له الأثر الحاسم في هذه المرحلة. ولهذا لا يمكن أن تواصل القيادة الفلسطينية العمل بوسائلها القديمة؛ التي لم تعد صالحة في ظل كل هذه المتغيرات. فغدا إذا ما ضاعت القدس وتم تصفية القضية، عندها لن تلام دول العالم التي وفرت هذه المرة فرصة جديدة ونادرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولكن ستحمل النخب الفلسطينية المسؤولية كاملة؛ لأنها ضيعت البوصلة، وتعاملت مع اللحظة الراهنة بمنطق وبأدوات وأمراض المراحل السابقة.