قضايا وآراء

إنها "الفوضى المدروسة"!!

1300x600

تشهد منطقتنا العربية فوضى تشيب لها الولدان، بدءا من العراق وسوريا، وليس انتهاء باليمن وليبيا.. دمار وتهجير وضياع أحلام، وذهاب للمجهول يجعل الحليم حيرانا، فما زال الصفيح ساخنا يستطيع حرق كثيرين.

فما سر هذه الفوضى؟ وهل هي فعلا عبثية باعتبارها فوضى أم إنها مدروسة، وتُسير لتحقيق أهداف ومصالح دول بعينها؟

لا يخالف إلا معاند؛ أن ثورات الربيع العربي جمعها خيط الحرية، وإن اختلفت الظروف والحيثيات بين دولة وأخرى، ولم تتبن هذه الثورات إيديولوجية معينة، سواء أكانت دينية أو سياسية، حيث كانت ثورات شعبية رافضة للاستبداد أيا كان شعاره وسرباله. ولعل عفوية الثورات العربية مكن المنتفعين السابقين من الانقلاب عليها، بقدر ما سمح للمنتفعين الجدد بركوب صهوتها، وذلك سبب رئيس مكن الآخرين من الفوضى المدروسة التي تشهدها وستشهدها دول العالم العربي.

وما إفشال التجربة الديمقراطية في مصر، وإشغال الليبيين واليمنيين بحرب داخلية، وسحق الثورة السورية؛ إلا نتائج للفوضى المدروسة التي يرشح انضمام كثير من البلدان العربية إليها بما فيها الخليجية.

 

وضوح معالم الثورة السورية وامتداد عمرها وتشابك الخيوط؛ كشف، ليس فقط الفوضى المدروسة، بل المبادئ الحقيقية التي تسير عليها الدول


ولعل سوريا تمثل المثال الواضح لهذه الفوضى المدروسة. فما يجري فيها الآن لم يعد مجرد ثورة شعبية ضد الاستبداد، وليس صراعا إقليميا ودوليا فحسب، إنها - إضافة لما سبق - الفوضى المدروسة والمُسيّرة ضد مصالح الشعوب. فوضوح معالم الثورة السورية وامتداد عمرها وتشابك الخيوط؛ كشف، ليس فقط الفوضى المدروسة، بل المبادئ الحقيقية التي تسير عليها الدول في حكمها وفي إدارتها للملفات السياسية. وهي أبعد ما تكون عن الشعارات المرفوعة أو الدساتير المكتوبة أو الأهداف المُعلنة؛ إذ قُدم للثورة السورية دعم سياسي ومالي وإعلامي وعسكري كبير، ولكنه دعم منظم لا يؤدي لسقوط النظام، ولا يسمح بهزيمة المعارضة، باعتراف مسؤولين سابقين كانوا في موضع القرار.

ولم يُسمح لتنظيم الدولة "الدواعش" بعبور الحدود العراقية إلى سوريا، وافتراس الثورة السورية، والتمدد على حساب الثوار، وحسب، بل إن من يتتبع ولادة تنظيم الدولة في سوريا ومراحل نموه وموته؛ يدرك حجم الفوضى المدروسة. فقد كان بالإمكان وأد تنظيم الدولة بالمهد، عبر دعم القوى الإسلامية المعتدلة أو القوى الوطنية الصادقة، لكن الذي حصل هو خلاف ذلك، إذ خشيت كثير من الدول دعم الإسلاميين المعتدلين خوفا من الإسلام السياسي، بل وانقلبت دول على ثورات من أجل ذلك، كما أحجمت عن دعم القوى الوطنية، فتفاجأ الجميع بدعم الروس والأمريكان معا لطرف بعينه من أجل الفوضى المدروسة!

فدعم الثورة بشكل مقنن يشبه لحدٍ كبير، من حيث المضمون، الدعم الذي تلقته الثورة الليبية والثورة المصرية؛ بعد يقين الداعمين استحالة بقاء النظامين الليبي والمصري، لكن العمل كان جاريا للمراحل اللاحقة بما يخدم الفوضى المدروسة، فتم الانقلاب على الشرعية في مصر بطريقة مدروسة، وتم الانقلاب على ثورة الليبيين بطريقة مماثلة من حيث الجوهر. فالانقلابان في مصر وليبيا خلقا فوضى منعت وتمنع التحول الديمقراطي في بلد عربي.

 

استثمر الجميعُ الفوضى التي نتجت عن تنظيم الدولة، فتقاسموا الكعكة، وتناسوا أن هناك ثورة شعب. وانسحب الداعمون الصغار بعد أن استثمر الكبار الفوضى التي رعوها


وبالعودة لسوريا، فقد استثمر الجميعُ، عدا السوريين، الفوضى التي نتجت عن تنظيم الدولة، فتقاسم الجميع الكعكة، وتناسى الجميع أن هناك ثورة شعب، وانسحب الداعمون الصغار للوراء بعد أن استثمر الكبار الفوضى التي رعوها، فدعم التحالف بقيادة الولايات المتحدة المليشيات الكردية التي لا يتجاوز عددها عشرين ألفا؛ لدحر تنظيم الدولة، والسيطرة على مساحات شاسعة معظمها ذو غالبية عربية، وفي الوقت عينه، دعم الروس نظام الأسد المدعوم بمليشيات طائفية للسيطرة على الحصة المتبقية.

ولا يخفى على المتابع أن التنسيق الأمريكي الروسي حاصل قبل الاتفاق الكيماوي، لكن اتفاق نزع السلاح الكيماوي في 2013؛ أوضح هدفهما المتمثل بإدارة الصراع لدفعه نحو مزيد من الفوضى التي تحقق أهدافهما.

ومما يؤسف له؛ أن حكومات عربية أسهمت بوعي واختيار، أو دون وعي وبالإكراه، بهذه الفوضى، إذ حالت حكومات عربية دون رحيل المخلوع علي عبد الله صالح فعليا، وتركته ممسكا زمام الجيش؛ لحسابات خاطئة، لتجده أمامها لاحقا يتحالف مع الحوثيين، فنتج عن ذلك فوضى يدفع ثمنها العرب، ويعتاش عليها الآخرون.

ولعل حرف الحراك الثوري نحو الطائفية هو من ثمار الفوضى المدروسة، فالمستفيد من الانقسام الطائفي في العراق وغيره من البلاد العربية، سواء أكانت البحرين أو الكويت أو لبنان، مهندسو الفوضى المدروسة، وربما غيرهم. ولا شك أن العرب على اختلاف انتماءاتهم هم الخاسر الوحيد من أي صراع يأخذ الصبغة الطائفية.

وغير خافٍ على أحد أن الاحتلال الأمريكي للعراق أسّس للطائفية هناك، تماما كما رسخ النظام السوري اللعبة الطائفية في لبنان. وبدلا من أن يفضح العرب اللعبة، دخلوا دوامتها، وتحولوا لأحجار شطرنج فيها، فتمزقت التركيبة الاجتماعية، ما يهدد مستقبل العرب إضافة لحاضرهم.

خالفت الفوضى المدروسة حركة التاريخ الطبيعية، ومبادئ العيش المشترك للمجتمعات العربية. فقد كان بالإمكان نجاح ثورات الربيع العربي رغم عمق النظام الاستبدادي. فالتحول الديمقراطي كان كفيلا بمحو رواسب الاستبداد، وجذور دولته العميقة، لكن النظام العالمي الجديد حال دون هذا التحول -مؤقتا- وخلق فوضى وظّفها لإعادة أدواته. فالفوضى جعلت الكثيرين يرضون ويقبلون بأنظمة لا تمثلهم، وما البيان الروسي الأمريكي عقب قمة أبيك، إلا دليل آخر على الفوضى المدروسة. فمن فوّض الروس والأمريكان لتحديد هوية سوريا وشكل نظامها؟! إنها الفوضى المدروسة من قبلهم، ومن قبل الغرب عموما، والولايات المتحدة تحديدا، التي تُسيّر الصراعات لصالحها. ولكن هذه الفوضى ليست قدرا حتميا، إنما مرحلة سيتبعها مراحل.