كتاب عربي 21

ما بعد العنف وما قبل الفوضى

1300x600
تتشابه مرتكزات الاستبداد مع مرتكزات الاحتلال الخارجي في تحَرّيهما إحداث الفُرقة في المجتمع المرغوب السيطرة عليه، وإن افترقا في الخلفية التي ينبني عليها السلوك، وأيضا يفترقان في الأدوات المستخدَمة لتحقيق مراد كل منهما. 

فأحدهما أدواته وطنية تحتكر أدوات الإكراه المادي بصورة شرعية، والآخر أجنبي يقاوم كل سلوك صادر عنه، ولا يلتفت المستبد لخطورة إثارة الخلافات بين أفراد أو جماعات المجتمع، وما ينبني على ذلك من ضعف مناعته أمام الخطر الذي قد يتهدد الدولة إذا تمت مهاجمتها من داخلها أو خارجها، وبمقدار حالة الاستبداد تتعاظم عملية تفريق المجتمع، وهذه محصلة ما يجري بالدولة المصرية الآن.

تتكرر في كتابات المستشار طارق البشري الإشارة إلى ما مفاده بأن "الاستبداد يسعى لتشتيت المجتمع حتى يبقى مسيطرا على المجموع، ويضمن بقاءه في السلطة، فيثير الخلافات الثقافية، ويُذكي التوترات الطائفية، مع خطورة ما يصنعه من ضرب لتماسك الأمة". 

وتماسك الأمة على وجه التحديد هو ما يعنينا لجلالة قدره في نشوء وبقاء المجتمعات على حد سواء.

ما جرى أن التكوينات الاستبدادية نجحت في تحويل الخلاف الفكري إلى خلاف حول الأصول، وشتّان بين خلاف حول فرع كمسألة ثقافية "ليست ذات أولوية"، وبين مسألة حركية مثل إتاحة التداول السلمي للسلطة، وهذه الأخيرة أصل المُشْكل المصري والعربي، وإدارة الخلاف الفكري، ينبغي أن يكون محصورا في المناشط الثقافية أولا، وفي اقتراع الشارع آخِرا، لحسم الخلاف الذاهب للجدل، ولا نتيجة ترجى من ورائه. 

هذه هي حدود الخلافات التي أذكى الاستبداد أوارها، فجعلها أصلا منقلبا عن فرع، لتبقى الخلافات مهيمنة على المجموع، وشاغلة لهم عن منبت التردي الحضاري العربي والإسلامي.

هذا المعنى لمسناه كثيرا في الجدل بين الثقافات المختلفة في أوساط النخبة السياسية المصرية في الفترة التالية لثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011.

فبدأ الأمر بخلاف حول قرار في استحقاق انتخابي، ثم انقسمت ميادين رفاق الثورة بمطالبات متنوعة، ثم اشتبكوا في ميدان التحرير أثناء أحد الاحتفالات بالثورة في مكانها الزكي ذاته، ثم أدت تلك السوابق لاشتباكات دامية أمام قصر الاتحادية. 

فاستقر أمر النزاع واحتدم الخلاف، وأيقنت أجهزة الاستبداد أنها وضعت رقاب الجميع تحت مقصلتها، فوصلنا إلى الثلاثين من حزيران/ يونيو 2013، وما تلاه من أحداث لازلنا نتجرع آثارها. 

وليست أحداث "الواحات" الأخيرة بمعزل عن ذلك السياق، الذي قُسّم فيه المجتمع على خلفيات فكرية ووظيفية بشكل غير مسبوق، وبتسارع يُنذر بانهيار بالغ حال حصوله.

ولما تشكلت سلطة الحكم عقب الثالث من تموز/ يوليو 2013، قامت بأبشع ما قد تقوم به "سلطة حكم" يُفترض أن أهم مهامها حفظ الاستقرار والسلم الأهلييْن. 

فخالفت ذلك، وأمعنت في إذلال خصومها الذين أزاحتهم عن الحكم بالقوة، وتدنت في خصومتها لدرجة عدم تورعها عن صياغة الأغنيات التي تمجد في المؤسسة التي قامت بالإزاحة القسرية. 

وساعدت على إذاعتها عقب مجزرة الفض لتشتعل أنفس المكلومين، وتتردى طباع المخالفين لهم، وكنا من قبل مهما عظُم الخلاف نقف أمام جلال الموت وهيبته، ومراعين لحال مَن فقدوا عزيزا لديهم، إلى أن قامت مؤسسات من الدولة -بتكرار ملحوظ- بإهدار قيمة عليا وإعلاء سلوك خسيس أيقظ روح التشفي التي ما عرفها الشارع المصري من قبل.

ربما نذكر في بدايات ما جرى في تموز/ يوليو 2013 تلك المشاهد المصوّرة التي كانت تنقل لحظات وقوف متظاهرين أمام قوات أمنية وعسكرية دون اشتباك، وأحيانا كانت تدور خطابات عاطفية من أحد الفريقين للآخر في محاولة لتهدئة النفوس ومنع الاقتتال. 

مما لا يحكم علينا بالمجازفة إذا قلنا أن الخلاف لم يبلغ -حينها- مرحلة الانقسام الشعوري وكان في حدود الانقسام السياسي الذي يمكن التئامه بمادته السياسية ذاتها، لكن الانقسام الشعوري والنفسي لا يلتئم إلا بالعدالة ومحاسبة من أخطأ وأسرف في خطئه.

نتج من توالي الأحداث والمواقف انفعالات مقابلة، وأصبحنا أمام حالة انقسام بالغة الحدة، ولا نناقش هنا مدى أخلاقية التعازي أو رفض فعلٍ ما أيّا كانت جهته الفاعلة أو الموجَّه إليها. 

ولا نناقش كذلك مدى أخلاقية قبول أو رفض حادثة عنف ضد إحدى الفِرق، بقدر ما نشير إلى النتائج وخطرها المؤثر على المجتمع في وجه أخطار أكبر مما يجري في مباريات التشفي. 

ففضلا عن الانقسام المجتمعي، هناك تزايد عددي في قاعدة العنف يستوي في ذلك أبناء أجهزة الدولة وخصومها على اختلاف توجيه كل منهم للعنف. 

ولا مبرر للأولين حتى وإن كانت ملكية أدوات العنف مسموح بها من جماعة الحكم. 

كما أن هناك انهيارا اقتصاديا تجاوز مراحل المسكنات ويحتاج لجراحة عاجلة، وهناك تبعية إقليمية ودولية أفقدت القرار السياسي أي مساحة من الاستقلال. 

وأصبح القرار بيد من يعطي المال أو يمنح الاعتراف الدولي، ويجري كل ذلك بمعزل عن سعي أطراف من جهاز الدولة أو المعارضة الوطنية لوضع حد لتلك الإشكالات، إما بقدرة الأوّلين على الضغط الداخلي لتحسين الأوضاع، أو باتفاق المعارضة الوطنية على تجاوز الخلافات "الثقافية"، وتركيز الحراك في اتجاه تدعيم مبدأ التداول السلمي للسلطة.

المعاناة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية كلها تندرج تحت لافتة واحدة مطبوعة في كل أنسجتها كلمة "الاستبداد". 

ودرس التاريخ الأهم أن "الظلم مؤذن بخراب العمران"، ولا سبيل للتحرك نحو المستقبل إلا بيد القوى الوطنية المصرية سواء داخل أجهزة الدولة أو في التجمعات السياسية الرشيدة، قبل فيضان الفوضى الذي تلوح أماراته بتسرب رقعة العنف لمساحات أوسع.