قضايا وآراء

المرض الهولندي وتحديات تنوع الاقتصاد في دول الشرق الأوسط

1300x600
حتى أواخر خمسينيات القرن الماضي، كان الاقتصاد الهولندي يتميز بنوع من التوازن بين القطاعات الاقتصادية، مثل الزراعة والصناعة وغيرها من القطاعات إلى أن تم اكتشاف كميات كبيرة من الغاز على ساحل بحر الشمال، الأمر الذي كان بمثابة نقطة تحول فاصلة في تاريخ الاقتصاد الهولندي، حيث تحول إثر ذلك إلى اقتصاد ريعي (اقتصاد يعتمد بصورة أساسية في تحقيق الإيرادات على عوامل تكون مساهمة المواطنين فيها محدودة مثل النفط والسياحة وغيرها). ونتيجة لذلك، وخلال 15 عاما، أصاب المجتمع الهولندي حالة من الثراء والبذج الاستهلاكي، إضافة إلى تولد حالة من العزوف عن العمل في القطاعات الزراعية والصناعية، والاتجاه إلى العمل في الأعمال الإدارية والمشاريع الخدمية.

وفي ظل ارتفاع حصيلة الإيرادات النفطية وتدني المستوي الإنتاجي في القطاعات الصناعية والزراعية، ارتفع مستوى البطالة من 1.4 في المئة في العام 1971 ليصل إلى 5.8 في المئة في العام 1979، وارتفعت قيمة العملة المحلية نتيجة تولد فائض في الميزان التجاري، الأمر الذي انعكس سلبا على الصادرات غير النفطية، حيث أصبحت تكلفة التصدير أعلى (نتيجة ارتفاع قيمة العملة المحلية، وارتفاع تكاليف الإنتاج) مما جعل الصادرات غير النفطية أقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية، وفي نفس الوقت ازداد الطلب المحلي على السلع المستوردة.

وفي ظل هذه المعطيات ازدادت معدلات البطالة، حيث إن قطاع النفط ذا عمالة منخفضة، وأصبحت محفزات الاستثمار في القطاعات غير النفطية غير مشجعة، وتولدت حالة من انعدام الرغبة في التطور وتنفيذ الإصلاحات، وزادت معدلات انعدام الشفافية التي تعتبر ركيزة في عملية التنمية الاقتصادية، وغيابها يزيل الضغط عن مساءلة الحكومة من خلال قدرة الحكومات إخفاء البيانات المالية المتعلقة بالإيرادات النفطية. إضافة إلى ذلك، فإن وفرة الموارد الطبيعية وسيطرة الحكومات عليها من دون وجود هيئات رقابية فاعلة، يسهل على الحكومات الاستبدادية إسكات المعارضة. كما أن سيطرة شركات النفط الأجنبية على قرارات تلك الحكومات بطريقة لا تتماشى مع مصالح هذه الحكومات وشعوبها، ولكن بما يتلاءم مع مصالح هذه الشركات. ومن زاوية أخرى، فإن اعتماد البلدان النفطية على العائدات النفطية بشكل رئيس من دون بناء اقتصاد متين ومتنوع يستند على مختلف القطاعات، يجعلها رهينة لتقلبات أسعار النفط التي تؤثر على سعر الصرف لهذه البلدان، وهذا بدوره ينعكس على القطاعات الأخرى، وفي ظل هذه الأعراض يكون الاقتصاد قد أصيب بلعنة الثروة أو ما يسمى بالمرض الهولندي.

المرض الهولندي والعالم العربي

لم يكن تسليط الضوء على التجربة الهولندية وما أصابها من لعنة الثروة؛ إلا بمثابة مثال حل وجب على صناع القرار في عالمنا العربي أخذه بعين الاعتبار، إذا ما كان لديهم رغبة جادة في تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة. ولكن ما تشير إليه التقارير والإحصائيات يوضح عدم أخذ الدروس والعبر لتجنب لعنة الثروات. فعلى سبيل المثال، نجد أن هيكل صادرات البلدان العربية المنتجة للنفط لم يتغير خلال الفترة 2000- 2010.

التغير في هيكلية صادرات بعض الدول النفطية في العالم العربي:



المصدر: مؤشرات التنمية العالمية (2012)

وفي ذات السياق، نجد أن معظم الدول العربية المصدرة للنفط مثل الجزائر والعراق والكويت والسعودية، لا تنوع صادراتها، وتعتمد بصورة أساسية على عائدات النفط، ناهيك عن ارتفاع معدلات البطالة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة في البلدان النفطية، بالإضافة إلى عجز الموازنة التي باتت تعاني منه معظم الدول المنتجة للنفط، حيث وصل عجز الموازنة لدى المملكة العربية للسعودية، والتي تعتبر من أكبر الدول المصدرة للنفط، إلى 20 في المئة في عام 2015، والحال مشابه في الكويت التي تعتمد بنسبة تفوق 90 في المئة على الإيرادات النفطية. وفي ظل غياب الاعتماد على القطاعات الأخرى (التجارة، الصناعة، الزراعة، الأسماك، وغيرها)، فإن هذا الأمر يجعل أي انخفاض في أسعار النفط ينعكس مباشرة وبصورة سلبية على الموازنة، بل ويؤدي إلى خلق أزمات اقتصادية في البلاد. ومن بين الأمثلة الأخرى، دولة الجزائر التي يعتمد اقتصادها بصورة كبير على الإيرادات النفطية، حيث تشير التقارير إلى أن 16 في المئة من الجزائريين يسيطرون على 80 في المئة من ثروات البلد، في حين أن قرابة نصف سكان الجزائر يعانون من الفقر.

مسكنات أم حلول جذرية!!

لعل ما حدث خلال السنوات الأخيرة من انخفاض أسعار النفط من 112 دولارا للبرميل لتصل إلى 30 دولارا للبرميل؛ كان بمثابة التحدي الأصعب الذي واجهته الدول المنتجة للنفط، خصوصا في ظل عدم تبنيها لسياسات التنوع الاقتصادي، حيث دفع انخفاض أسعار النفط الدول المنتجة إلى تخفيض كميات الإنتاج، وهذا الامر الذي فاقم الأزمة الاقتصادية وزاد من عجز الموازنة، خصوصا في ظل محدودية مصادر الإيرادات في دول مثل الكويت والسعودية.

وفي محاولة منها لتقليل عجز الموازنة وتفادي العواقب السلبية لانخفاض أسعار النفط، اتخذت هذه الدول بعض الإجراءات والإصلاحات، مثل خطط التقشف وتقليل الإنفاق الحكومي وفرض الضرائب والعمولات وخصخصة بعض الشركات، حيث تستطيع الحكومات من خلال هذه الإجراءات تقليل عجز الموازنة وتجميل المؤشرات الاقتصادية، ولكن وقايتها من المرض الهولندي لا يتم إلا بتطبيق إصلاحات جذرية شاملة تساهم في تطبيق التنمية الاقتصادية والابتعاد عن تبعية النفط.

وتشمل تلك الإصلاحات ضرورة تحقيق النمو الاقتصادي بشكل متوازن في كافة القطاعات، من خلال توجيه استثمارات في القطاعات الأساسية مثل الزراعة والصناعة والخدمات. وهذا الأمر يتطلب توفير مناخ استثماري ملائم بما يتضمنه من بنية تحتية متكاملة، وتوفير الحماية والدعم للاستثمارات الأجنبية في القطاعات غير النفطية، وتبني سياسيات الخصخصة في القطاعات الزراعية والصناعية. إضافة إلى ذلك، ضرورة تخفيض سعر صرف العملة المحلية إلى الحد الذي يمكنها من زيادة القدرة التنافسية للصادرات (في القطاعات غير النفطية) عن طريق الإدارة السليمة لاحتياطيات النقد الأجنبية. علاوة على ذلك، يجب على الحكومات أن تتخذ إجراءات حاسمة في ما يتعلق بتعزيز الحوكمة والشفافية لما تلعبها من دور أساسي في تعزيز البيئة الاستثمارية وتحقيق النمو الاقتصادي.

على الهامش

هولندا اليوم تعتبر واحدة من أهم القوى الاقتصادية في العالم، حيث إنها تمكنت من التعافي وتحقيق التنوع الاقتصادي، وتتمتع بمعدلات بطالة منخفضة (أقل من 5 في المئة) مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى. ويصل معدل دخل الفرد السنوي قرابة 45 ألف دولار، وهي اليوم صاحبة ثاني أعلى معدلات استثمار في قطاع الصناعات الزراعية، وأصبحت إحدى الدول الرائدة في آلات تصنيع لحوم الدواجن واللحوم الحمراء والأجبان، كما أنها صنفت كخامس اقتصاد تنافسي في العالم (2013).