قضايا وآراء

دلالات وتداعيات الإعلان عن تأسيس حزب صوفي في السودان

1300x600
لم يعد التصوف اليوم على ما يبدو، كما ألِفه الناس ذلك لعقود من حيث السكون والزهد والترفع عن ملذات الدنيا وترفها وتجنب فتنها؛ فالتيارات الصوفية في بلدان العالم الإسلامي المختلفة شهدت فى العقد الأخير حِراكا واسعا على مستوى الفاعلية والدور والوظائف، نتيجة لعوامل من خارجها أكثر منها بداخله، وقد تكون تلك العوامل بمثابة مقدِمات لما سيكون عليه التصوف فD الفترة المقبلة.

فى هذا السياق، وفى خطوة كانت متوقعة، أعلنت مجموعة من الرموز الصوفية في السودان (الأربعاء 2 آب/ أغسطس)، الشروع في تأسيس حزب صوفي في البلاد، سيكون أول حزب من نوعه فى العالم الإسلامي كحزب صوفي خالص، أو بالأحرى يقوم اساسا على الرموز الصوفية، رغم وجود أحزاب سياسية بالبلاد تستند على القاعدة الصوفية؛ كحزبي الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي الذي يستند على طائفة "الأنصار" المنبثقة من الثورة المهدية، والحزب الاتحادي الديموقراطي والذي انبثق من طائفة "الختمية"، وكلتا الطائفتين صوفية الجذور.

وتداولت وسائل التواصل الاجتماعى بيانا صادرا عن اللجنة التمهيدية لتأسيس "الحزب الصوفي الديموقراطي"، موجّهٌ بتاريخ (20 تموز/ يوليو) لمسجل "مجلس التنظيمات والأحزاب السياسية"، وهو الجهة المنوط بها الاعتماد الرسمي للأحزاب السياسية ومنحها الرخصة القانونية لمزاولة نشاطها بالبلاد.

وجاء في البيان نصا الآتي: "نكتب إليكم بخصوص تسجيل حزبنا (الحزب الصوفي الديموقراطي) من ضمن منظومة الأحزاب السودانية، حزبا يضم في بوتقته جماعة من أهل التصوف وأحبابهم بالبلاد، حزبا وطنيا يسعى لتحقيق قيم الديموقراطية والقومية والعدالة والحرية والمساواة بين الناس بالبلاد، والعيش الكريم لكل أهل السودان، وسوف نسعى جاهدين بإذن الله لتحقيق تلكم المبادئ ونشارك في كل ما يخدم مصلحة الوطن، كما نلتزم بكل موجهاتكم الفنية الرامية للتداول السلمي في مشاركة الحكم".

وكما هو متوقع، أثارت الخطوة التمهيدية لإعلان تأسيس حزب صوفي ردود فعل سريعة رافضة للخطوة بشكل كبير، وسوف تتوالى. كما أنه سوف تترتب عليها تداعيات كبيرة على صعيد الساحة السياسية أو على صعيد الطوائف الصوفية.

بدأ الحِراك الصوفي مؤخرا يأخذ منحى جديدا كليا؛ ذا طابع تنظيمي لم تألفه الساحة الصوفية في البلاد، كما تدل على ذلك بعض التحركات: تنظيم اللقاءات الحاشدة، وإصدار البيانات، والحضور الإعلامي المكثف، وحدة المطالب والتوجهات.. إلخ.

لا يمكن الإحاطة بتوقيت ودلالات هذا الإعلان من دون معرفة أسباب ودوافع هذا الحِراك الصوفي مؤخرا، وملامح خطاب رموزه في الآونة الأخيرة.. والتي منها:

• تصعيد المواجهة مع التيار السلفي وهميمنته على المنابر الدعوية، وخطابه العنيف ضد التقاليد الصوفية وانتقاده لمظاهرها ونعتها بالشرك والكفر والخرافة.

• محاولات التباعد عن الدولة والحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، ونقد سياسات بعض أجهزة الدولة الدعوية وتحميلها مسؤولية انتشار السلفية، رغم وجود بعض أشكال التواصل بين الدولة وبعض الرموز الصوفية على أرفع المستويات.

• التماهي مع السياسات الدينية لبعض الأطراف الخارجية، لا سيما على مستوى الخطاب ومفرداته (خاصة الإمارات العربية المتحدة الداعمة لما يسمى بشبكات التصوف السياسي، وكذلك مع الخطاب الذى تتبناه إيران ضد ما تطلق عليه  التيار التكفيري الوهابي).

• تآكل الثقة بين الدولة والحزب الحاكم من جهة، وبين قطاعات من المتصوفة من جهة أخرى، ووجود رغبة لدى  التيار المدعوم من شبكات التصوف السياسي لتعميق  الشُقة بين الجانبين.

• بروز كيانات معروفة تقوم عليها رموز صوفية معروفة في الساحة، تمثل التوجه الجديد لدى المتصوفة، مع حضور بارز لها في وسائل التواصل الاجتماعى عبر المنشورات والتعليقات والكتابات والتصريحات وردود الفعل التي تعكس مفردات الخطاب.

• تعبئة التيارات الصوفية على مطالب لا خلاف عليها، وتجد التعاطف بسهولة من القواعد الصوفية، ولكنها تحمل فى طياتها إحراج الدولة: إما اختيار السلفيين أو خسارة المتصوفة، او دق إسفين بينها والتيارات السلفية.

على حين غرة، ووسط هذا الحراك الصوفي، تسعى إيران لتحريك "المتشيعين"- مذهبيا أو سياسيا - من المتصوفة؛ لاستغلال فرصة التمويل والتنظيم التي تقوم بها حاليا شبكات التصوف السياسي وسط بعض دوائر الصوفية، لتوجيه هذا الحِراك بما يحقق لها أهدافها، بعد ان تم إغلاق سفارتها مراكزها الثقافية بالبلاد.

بجانب ما تقدم، هناك أيضا السباق المحموم الذي ينتظم مختلف القوى السياسية والمكونات الإجتماعية في البلاد - على رأسها المؤتمر الوطني - للإعداد للدورة المقبلة من الانتخابات المزمعة (2020)، كما تراهن على هذه الانتخابات القوى الخارجية أيضا.

في هذا الصدد، أعلن الاتحاد الأروبي مؤخرا تقديم دعم مالي للتحضير للانتخابات المقبلة، وهو ما يقودنا مرة أخرى للحديث عن الرهان الخارجي على تلك الانتخابات. فبعض القوى الخارجية ذات الاهتمام في الشأن الداخلي السوداني؛ بدورها تسعى لحشد ودعم قوى بعينها ضد المؤتمر الوطني، ذلك أن هذه استراتيجية جديدة مقاربة بعد فشل المقاربات السابقة.

ومما لا شك فيه، إن إعلان تأسيس حزب صوفي سوف يحدث حراكا مضادا وسط المتصوفة، كما ستترتب عليه جملة من التداعيات منها:

أولا، انقسام البيت الصوفي، وربما تمايز بيّن جذري داخلها، وقد يأخذ هذا التمايز أبعادا عميقة، كما قد تترتب عليه "ثورة" داخل الدوائر الصوفية، ذلك أن ردود الفعل على تأسيس الحزب الصوفي سترفع الحرج عن البعض لإبداء بعض المواقف تجاه بعض الدوائر وسط المتصوفة، وسيحاول البعض التبرؤ من تُهمة تأسيس الحزب، أو العكس، أي التمسك القوي بالفكرة بقوة وعناد، والمُضي بها  قدما مهما تكن النتيجة.

ثانيا، رد فعل المؤتمر الوطني المتوقعة حيال تلك الخطوة - وهي من شأنها إفقاده قاعدة جماهيرية عريضة ظل يعتمد عليها - فضلا عن خطورتها على تيارات صوفية أخرى تتقاطع مصالحها مع مصالحه كحزب حاكم.

ثالثا، زيادة حدة الاستقطاب السياسي بين أؤلئك الذين يراهنون على الحزب الصوفي كحصان طروادة، وأؤلئك الذين يخشون من أي نجاح محتمل لهذا الحزب، لا سيما وأن المشهد السياسي يتسم عموما بالتمزق والفوضوية.

رابعا، ردود فعل ومواقف لحزبي الأمة القومي والاتحادي الديمقراطي، وإمكانية خسارتهما بعض القاعدة الصوفية لصالح الحزب الجديد، وبالمثل مواقف التيارات الصوفية الأخرى المنخرطة في أحزاب قائمة.

بالإضافة إلى ما سبق، ثمة دوائر تراهن على الحزب الصوفي كبديل لتيارات الإسلام السياسي، ودوائر أخرى تريده بديلا سياسيا للمؤتمر الوطني بعد فشل "المعارضات"، المدنية والمسلحة، في هزيمته وتحديه أو إسقاطه. كذلك هنالك دوائر تراهن على الحزب الصوفي كبديل  للمعارضة التي تبدو عصية على الإصلاح، وعاجزة عن تشكيل بديل مقنع لدى دوائر  في الغرب بسبب انقساماتها وصراعاتها المزمنة.

في واقع الأمر، ورغم توفر مظاهر قاعدة شعبية للمتصوفة أو سهولة تعبئة "المريدين" لنصرة فكرة الحزب الصوفي، فإن ما يحول بين هذه الحزب الصوفي المرتقب وإمكانية النجاح، هو طبيعة الممارسة السياسية المبتذلة في البلاد، حيث تبدو معها لعبة السياسة أشبه بسوق للمساومات والابتزاز والتنازلات، وقوام هذا السوق: تبدل الولاءت واستخدام المال السياسي وشراء الذمم، فضلا عن الاختراق والانشقاقات، على حساب الثوابت والمبادئ والأخلاقيات.

فوق كل ذلك، إن قدرة القوى التي تقف خلف تأسس الحزب الصوفي على الصمود هي المحك الحقيقي؛ فمثل هذه المشاريع ذات الولادة غير الطبيعية، والدوافع السياسية كذلك - خاصة التي تكون مدعومة من الخارج - تبدو درجات توقع تفككها أرجح من عوامل استمرارها أو نجاحها.

وختاما، نخلص إلى ان الحزب الصوفي المزمع، فيما لو تم إشهاره بشكل رسمى، سيكون مواجها بتحديات جمة، ليس أقلها الإرث الثقيل من الفشل على صعيد الممارسات الحزبية وأجهزة الدولة ووظائفها، فضلا عن واقع يبدو، إلى حد كبير، غير قابل للإصلاح في المدى المنظور!