قضايا وآراء

لماذا يرى الاحتلال العالم أفضل بدون "الجزيرة"؟

1300x600
كان العالم أفضل بدون "الجزيرة"، بحسب المنظور الرسمي الإسرائيلي. فالشبكة التي ملأت الأبصار والأسماع دشّنت عهدا إعلاميا جديدا في العالم العربي، منذ انطلاقها عام 1996.

أصبح العرب يشاهدون ويسمعون ما لم تعرضه شاشات الدعاية الرسمية الرتيبة في عواصمهم.

انطلقت النقاشات العلنية والآراء المتعارضة، عندما شقّت "الجزيرة" طريقا سلكته وسائل إعلام عربية أخرى لاحقا.

ومع ازدهار التشبيك الإلكتروني أخذت المجتمعات تسجل حضورها بشكل غير مسبوق، في تفاعل مُتعاظِم مع المواد الإخبارية التي تعرضها "الجزيرة" وغيرها.

كان الوضع مختلفا قبل عشرين سنة. كانوا في الأروقة الإسرائيلية يتباهون بتجربتهم الإعلامية التي جعلت، مثلا، محطة الراديو الموجهة بالعربية "صوت إسرائيل" تحظى باهتمام ومتابعة من المستمعين العرب، المتعطشين لمعرفة حقيقة ما يجري في بلدانهم ذاتها خلف ستار التعتيم.

هو عهد انتهى مع بروز تجارب إعلامية عربية في مستوى منافسة عالمي، مثل شبكة "الجزيرة" التي تتحدث لغات عدة وتظهر على شاشاتها وجوه العالم. ما أزعج الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أنّ هذا الانفتاح الإعلامي يتيح إطلالة مباشرة على ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي وقواتها في الميدان.

فالمشكلة ليست مع "الجزيرة" ذاتها بل مع الواقع الذي تنقله شاشاتها إلى العرب والعالم، وهو واقع يفرضه الاحتلال بقواته وانتهاكاته وقصفه ومستوطناته وجدرانه ولم يعد بالوسع كنسه تحت البساط في زمن "الجزيرة".

نامت الحكومات الإسرائيلية هانئة عندما أبرمت صفقات كبرى مع مصر والقيادة الفلسطينية والأردن. فقد تم هذا كله بسلاسة قبل ظهور "الجزيرة" والقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي. فما جرى أن زعماء عرب ضعفاء دفعهم خوفهم من المستقبل إلى اتفاقات لم يصارحوا شعوبهم بشأنها ولم يعرضوها حتى على الخبراء والمختصين في بلدانهم.

قام الإعلام الرسمي العربي بتسويق الاتفاقات التي تم تحضيرها سرا، وقيل في الدعاية الرسمية إنها ستجعل البلاد فردوساً على الأرض، حسب ما كان يأتي آنذاك في الصحف والشاشات وسط جولات التصفيق.

اليوم تماما تبدو الحاجة ملحّة للعودة إلى ذلك الزمن الإعلامي الساذج، تحضيرا لصفقات كبرى جديدة يندفع إليها زعماء عرب ينتابهم الهلع من المستقبل والديمقراطية، دون مصارحة شعوبهم بفحواها بالطبع.

من يرغب مثلاً في العالم العربي بتمكين الأجيال من السؤال عن أموالها التي يفخر ترامب بامتصاصها بمئات المليارات؛ لتوفير "وظائف، وظائف، وظائف" لناخبيه.

تجري عملية تهشيم واسعة ومتعددة المستويات للصناعة الإعلامية في العالم العربي منذ مدة، بهدف العودة إلى زمن ما قبل "الجزيرة"، وهو ما يريح الجانب الإسرائيلي بالطبع الذي قرر أن ينهض بحصته من هذه العملية على أتم وجه.

قررت حكومة نتنياهو وقف عمل شبكة "الجزيرة"، بينما تباشر قواتها اقتحام مكاتب إعلامية في الضفة الغربية تتبع محطات تلفزة متعددة، بينما تتصاعد ممارسات الاعتداء على الصحافيين والمصورين وترهيبهم والتنكيل بهم واعتقالهم.

بحسب البلاغات الرسمية الإسرائيلية، فإن هذه الإجراءات تتم بالتناغم مع خطوات أقدمت عليها دول عربية وصفتها بأنها "عاقلة ومعتدلة"، وما لم تقله تلك البلاغات أنها دول لا تعترف بحرية الصحافة أساسا.

الهجمة الإسرائيلية على "الجزيرة" ستدوس في طريقها قنوات ووسائل إعلام أخرى مع الوقت، فالمستهدف ليس العلامة التجارية لهذه الشبكة، بل التغطيات.

تتصرف حكومة نتنياهو الآن على طريقة جنودها في الميدان، الذين يحجبون بأيديهم الغليظة ما يقترفونه عن كاميرات الصحافة.

ترى القيادة الإسرائيلية فرصة سانحة للفتك بشبكة "الجزيرة" على أمل العودة بالزمن إلى الوراء. تم اللجوء إلى هذا الخيار الخَشِن بعد أن خسرت الدعاية الإسرائيلية المنافسة الإعلامية في العالم العربي منذ زمن. وعندما قررت حكومة آريئيل شارون، مثلاً، إطلاق محطة تلفزيونية فضائية موجهة للمشاهدين العرب لتعيد أمجاد محطة الراديو الإسرائيلية، لم يلتفت إليها أحد وانهارت التجربة سريعا.

يتجاهل المتحدثون الإسرائيليون حقيقة أن شاشة "الجزيرة" هي تحديداً التي أتاحت لهم فرصة غير مسبوقة لمخاطبة العرب وجهاً لوجه، وظلّ كبار المسؤولين ومتحدثو الجيش يتسابقون على الظهور فيها لتبرير سحق الفلسطينيين واقتراف الانتهاكات. لكن هذه الإطلالات السخيّة لم تفلح في كسب عقول العرب وقلوبهم.

مشكلة حكومة نتنياهو هي ثقتها الزائدة بالنفس، التي تدفعها إلى خوض مغامرات لا تحتمل كلفتها. فبعد أن أقدمت على مغامرتها الأخيرة في القدس دون أن تتحسب لردود الفعل العارمة التي ترددت أصداؤها في العالم؛ ها هي تقرر سحق الإعلام على طريقتها الخاصة.

قد تنجح في تنفيذ قرارها بمنع "الجزيرة" من التغطية وسحب اعتمادات مراسليها، لكن "الجزيرة" ستكسب في اليوم التالي جماهير غفيرة تحمل الهواتف الذكية وتباشر الالتقاط والبث، دون اعتماد من أحد.

*ترجمة إلى العربية عن "ميدل إيست مونيتور"