كتاب عربي 21

لماذا نهاية تنظيم الدولة الإسلامية مستحيلة؟

1300x600
يشكل حديث النهايات أحد أبرز ثيمات الوضع ما بعد الحداثي المعولم، ومنذ نهاية الحرب الباردة ازدهرت أسواق النهاية في معابد الديانة النيوليبرالية الراسمالية المتوحشة، التي عملت على خلق وحوش متخيلة مناهضة لوحشيتها باسم "الإرهاب"، ولا جدال أن حديث النهايات العلماني مستعار من أحاديث النهاية الدياني، لكن السؤال الجوهري كيف يمكن للعولمة أن تعلن عن نهاية الإرهاب دون الوقوع في تناقض منطقي باعتبارهما وجهان لعملة واحدة، ذلك أن نهاية الإرهاب تقتضي زوال العولمة ذاتها.

 في هذا السياق يعتبر الحديث عن نهاية تنظيم الدولة الإسلامية مجرد رغبة يوتوبية فائقة في فنتازيتها، لا تستند إلى صلابة العقل وحقائق الواقع، ذلك أن تنظيم الدولة الإسلامية ــ وهي عبارة باتت تكافئ مصطلح "الإرهاب" ــ، لا يعدو عن كونه تمثيلا لـ "الأزمة السنيّة" التي نشأت عقب الإطاحة بالحكم السني في العراق منذ الاحتلال الأمريكي الذي أفضى إلى تولي الشيعة للحكم، الأمر الذي بدا واضحا عندما سيطر تنظيم الدولة بسهولة فائقة وبأعداد قليلة وعدة ضئيلة على المدن السنية العراقية منذ يزنيو/ حزيران 2014 وهروب وانسحاب قوات الجيش والشرطة العراقية الشيعية بآلافها المؤلفة ومعداتها المهولة، الأمر الذي استدعى فتوى "الجهاد الكفائي" الشيعي المقدس بتشكيل مليشيا شيعية تساند قوات الجيش  الشيعي.

رغم ضخامة الحشد الشيعي الحكومي والشعبي وامتلاكه لأسلحة متطورة وميزانية مالية كبيرة، لم يكن ممكنا طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" من المدن السنيّة دون وجود تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن قوات الجمهورية الإيرانية وقوات البيشمركة الكردية، فرغم التحضيرات التي امتدت أكثر من ثلاث سنوات تضمنت فرض حصار خانق وتنفيذ ضربات جوية، استغرقت معركة الموصل التي بدأت فجر 17 تشرين أول/ أكتوبر 2016 أكثر من ثمانبة أشهر أسفرت عن تدمير المدينة وتحويلها إلى ركام.

حديث النهايات كان حاضرا في إعلان رئيس وزراء العراق حيدر العبادي تحرير (تدمير) الموصل، في  29 يونيو/ حزيران الماضي، حيث شدد على "نهاية تنظيم "داعش" الإرهابي"، على الرغم من أن التنظيم كان لايزال يخوض معارك شرسة في بعض الأحياء القديمةـ، وقد جاء إعلان العبادي بعد سيطرة القوات العراقية على مسجد النوري في مدينة الموصل القديمة، الذي أعلن من منبره زعيم التنظيم أبو بكر البغددي دولة "الخلافة" في أول أيام رمضان عام 2014، وقد أكد العبادي على أن القوات العراقية ستظل تلاحق التنظيم، حتى آخر عنصر له في البلاد، وقال إن "استعادة جامع النوري، ومنارة الحدباء، وتفجير عناصر تنظيم "داعش" لهما، إعلان بانتهاء دويلة الباطل الداعشية".

إن الإعلان عن هزيمة وطرد تنظيم "الدولة الإسلامية" من مدينة الموصل، لا يعني نهاية "داعش"، ويبدو أن العبادي تسرع في الحديث عن نهاية التنظيم لأسباب تتعلق بالمنافسة السياسية الدخلية، فالحديث عن نهاية تنظيم الدولة في العراق لا يعدو عن كونه رغبويا، ولا يتوفر على مصداقية، وهو مناقض للتصورات الدولية والأمريكية ومراكز البحث الموثوقة وآراء الخبراء، فذلك ينم عن جهل يطبيعة تنظيم الدولة الإسلامية، حيث يمكن الحديث عن نهاية مشروع التنظيم كدولة تتوافر على هياكل للسلطة والحكم تسيطر مكانيا على مناطق مدينية حضرية رئسية كالموصل والرقة، ويستند في عسكريته إلى منظق الحروب النظامية الكلاسيكية ويفرض علي مناطق سيطرته منظومته الحاكمة، بينما سوف يعود التنظيم إلى سيرته الأولة  ويحافظ على وجوده كمنظمة تتوافر على إيديولوجبا وهيكل تنظيمي وتمويل يستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف. 

وبصرف النظر عن تحولات تنظيم الدولة وقدرته على التكيّف مع المتغيرات، فلا يزال أمام قوات التحالف والقوات العراقية معارك عديدة بعد معركة الموصل لطرد التنظيم من الأراضي التي يسيطر عليها في العراق فضلا عن تعقيدات المعارك في سورية، إذ لا يزال التنظيم  يحتفظ بعدد من المناطق تحت سيطرته ومن أبرزها الحويجة في محافظة كركوك شمالي البلاد، وأجزاء من الشرقاط في محافظة صلاح الدين، وتلعفر غرب الموصل في محافظة نينوى، والقائم في محافظة الأنبار غربي البلاد، وفي حال خسر التنظيم هذه المناطق وهو مرجح على المدى القريب والمتوسط، سوف يعمل التنظيم إلى إعادة العمل  كمنظمة مسلجة تخوض معارك غير تقليدية.

نهاية مشروع "الدولة" سوف يقود إلى عودة واقع "المنظمة" التي تعمل وفق حروب الاستنزاف عير استراتيجية حرب العصابات التي كان يتبعها التنظيم قبل سيطرته على المدن في العراق وسورية قبل الإعلان عن قيام "دولة الخلافة"، وتعتمد هذه الاستراتيجية على شن هجمات خاطفة عبر مسلحين وعبوات ناسفة وسيارات مفخخة وانتحاريين عبر خلايا التنظيم المتخفية بين المدنيين، فقد طور المجلس العسكري للتنظيم نمطا من الحروب الهجينة، حيث سرعان ما يتكيّف مع التحولات الميدانية وينتقل من نهج اتباع الحروب الكلاسيكية إلى نهج حرب العصابات الذي يعتمد على قوات خفيفة سريعة الحركة ترهق القوات المهاجمة.

 لقد برهنت معركة الموصل وعيرها من المعارك عن تطور عسكرية تنظيم الدولة ونهجه الاستراتيجي في الصمود والبقاء، وهي تتجاوز التجارب التاريخية السابقة، فبالمقارنة مع حركات ودول تعرضت لهجمات برية وجوية أقل حدة، وبمشاركة دولية أضعف كنظام حركة طالبان في أفغانستان 2001 ودولة البعث في العراق 2003، فقد فقدت طالبان السيطرة على عاصمتها الفعلية قندهار بعد أقل من شهرين من الغارات الجوية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وضربات قوات المعارضة الموالية للتحالف، أما دولة البعث فقد فقدت السيطرة على العاصمة بغداد بعد أقل من شهر ونصف من الغزو  الأنجلوأميركي، على الرغم من توافر عناصر تعتبر أساسية في الصمود كوعورة الجغرافيا وتعقيدات الطبوغرافيا، ووجود الحواضن الشعبية.

إن التكتيكات والاستراتيجيات العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية أظهرت قدرته على الصمود والتوسع أحيانا، وذلك من خلال الجمع ما بين تكتيكات "إرهاب المدن" كالهجوم بقوافل السيارات المفخخة بقيادة انتحاريين، والاستخدام المُكَثَّف لسلاح القناصة والاغتيالات قبل وأثناء الهجوم، إلى جانب اعتماد أساليب الحروب الثورية التقليدية، كاستخدام الوحدات المختلطة من العسكريين والمتطوعين المدربين، عبر عمليات كر وفر سريعة وقليلة العدد، فضلا عن استدخال التكتيكات النظامية التقليدية  باستخدام المدفعية الخفيفة والثقيلة والمدرعات والدبابات، إضافة إلى الأنواع المختلفة من الصواريخ الموجهة وغير الموجهة، ورغم أن أسلوب الحرب النظامية التقليدي تم تقويضه إلى حد بعيد بفعل الضربات الجوية للتحالف، إلا أن التنظيم استطاع تجنب المزيد من الخسائر عبر تفريق وإخفاء الأسلحة الثقيلة وبعض العربات المدرعة والدبابات التي نجت من القصف.

إذا تجاوزنا قدرات تنظيم تنظيم الدولة الإسلامية العسكرية الذاتية التي تطورت على مدى سنوات ومراكمة الخبرات، فإن قوة التنظيم الحقيقية ترتكز إلى أسباب موضوعية، وفي مقدمتها الشروط والظروف السياسية لعراق ما بعد الاحتلال، التي  تتمثل بـ"الأزمة السنية"، حيث جرى إقصاء وتهميش السنة من العملية السياسية مع بروز "المسألة الطائفية"، وهيمنة الحكومة الدكتاتورية بمكوناتها الشيعية، وما حدث في معارك المدن السنية برز مرة أخرى في معركة الموصل حيث الاحتفالات المذهبية الشيعية والرايات الطائفية والأهازيج الكربلائية.

 بعد حين توشك الأزمة السنية على الانفجار، نظرا لغياب تصورات سياسية واضحة حول إدارة الموصل والمدن السنية، وعدم وجود خطط عملية وموارد ومخصصات مالية للتعامل مع مسألة إعادة الإعمار وعودة النازحين، وعلى الأرجح لن تستطيع الحكومة العراقية  الوفاء بوعودها للمحافظات السنيّة المدمرة وسوف تتفاقم أزمة الثقة الحادة بين المكونات السنية والشيعية، فالمعركة الحقيقية  تبدأ مع انتهاء العمليات العسكرية، حبث تبرز مرة أخرى الجدالات والمطالبات دون حلول جذرية لعراق منقسم لا يزال بعيدا عن الحداثة السياسية وغارق في الانقسامات الطائفية والإثنية، وخاضع للهيمنة الإقليمية والدولية.

أحد الحروب المنتظرة في العراق التي ستعمل على تجدد الأزمة السنية، وتوفر شروط جديد لعودة تنظيم الدولة الإسلامية اشتداد النزاع والصراع الشيعي الكردي، فقد أعلن مسعود برزاني، رئيس إقليم كردستان، في مطلع حزيران/يونيو بأنه يعتزم إجراء استفتاء على استقلال الأكراد في 25 أيلول/سبتمبر، وهو أمر كفيل بإشعال حرب أهلية؛ ذلك أن الاستفتاء القادم لن يقتصر داخل حدود كردستان، بل سيشمل المناطق المتنازع عليها التي يتواجد فيها أكراد، والتي تقع حالياً تحت سيطرة الميليشيات الكردية، والتي من المنتظر أن تصبح دولة كردية مستقلة. 

الحرب الأخرى التي ستضاعف الأزمة السنية وتبرز تنظيم الدولة الإسلامية، تتمثل بإصرار مليشيات الحشد الشعبي الشيعي على السيطرة على المناطق السنية على الحدود العراقية السورية، فقد اندفعت هذه الميليشيات الشيعية المدعومة إيرانياً في أواخر أيار/مايو للسيطرة على مناطق شاسعة لا تحتوي على أي سكان من الشيعة، كجزء من مخطط إيراني يهدف إلى وصل ميداني المعركة في العراق وسورية، ودمج المصير السياسي للبلدين، تمهيدا لإقامة ممر بري متصل بين إيران ولبنان. 

لا يتوافر الحديث عن نهاية تنظيم الدولة الإسلامية على مصداقية علمية، وهو لا يعدو عن كونه دعاية سياسية قصير الأجل، تتناقض مع المعرفة العلمية، فقد جاء في دراسة لمجموعة الأزمات الدولية بعنوان "استغلال الفوضى: القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية": لكن إذا كانت الجذور معقدة، فإن المحفز واضح بما فيه الكفاية. لقد وفّر انزلاق معظم الثورات العربية التي اندلعت عام 2011 إلى الفوضى فرصة كبيرة للمتطرفين. لقد حشدت هذه الحركات قواها مع تفاقم وتطور الأزمات، ومع تدفق الأموال، والأسلحة والمقاتلين، ومعها تصاعد العنف. إن تنامي العداء بين الدول يعني أن قلق القوى الإقليمية من المتطرفين أقل من قلقها من التنافس التقليدي، وأنها تستخدم الحرب ضد تنظيم الدولة ضد أعداء آخرين أو تتساهل مع الجهاديين ليحاربوا نيابة عنها. في الشرق الأوسط بشكل خاص، يشكل توسع الجهاديين نتاجاً لعدم الاستقرار أكثر منه دافعاً رئيسياً له؛ ويعود إلى التطرف الذي يحدث خلال الأزمات وليس قبلها؛ وهو مدين للاقتتال بين أعدائهم أكثر مما هو مدين لنقاط قوتهم. نادراً ما تستطيع مثل هذه الحركات تعزيز قوتها أو الاستلاء على أراضٍ خارج منطقة حرب أو دولة منهارة.

وتشير دراسة لمعهد دراسات الحرب الأمريكي بعنوان "استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الأساسية القضاء على داعش والقاعدة" إلى:  أن الولايات المتحدة تقاتل في حرب خاطئة وتخسرها أيضاً، إذ لا تزال الولايات المتحدة تشن حربها بالوكالة ضد أعدائها من الجهاديين في المناطق ذات الكثافة السكانية، فمن المرجح أن يستعيد حلفاء الولايات المتحدة السيطرة على الموصل من الدولة الإسلامية في العراق والشام، وقد يتمكن الحلفاء الآخرون من استعادة الرقة في سوريا. ولكن السؤال يبقى ماذا بعد؟ فالدولة الإسلامية لديها قواعد أخرى في العراق وسوريا، لقد هزمت القاعدة المعارضة المعتدلة في شمالي غربي سوريا وتستعد لأخذ المبادرة في المناطق التي تنسحب منها الدولة الإسلامية (داعش)، كما عززت إيران قبضتها في كل من العراق وسوريا، وبهذا سيثبت الانتصار في الرقة والموصل أنه ليس مؤقتاً فحسب بل له نتائج عكسية.

وتخلص دراسة معهد الحرب إلى القول أن تنظيم الدولة الإسلامية  مستعد لتحمل خسارة هذه المناطق الهامة ونجاتها بعد ذلك، فقد وجهت الولايات المتحدة القوات التي تدعمها نحو مهاجمة اثنين من أقوى خطوط الدفاع لدى العدو، وما زالت داعش تسيطر على الأراضي في كلا الدولتين، والأهم من ذلك أنها ستستمر بالحفاظ على قدرتها في اختراق المجتمعات العربية السنية الواقعة تحت الحصار حتى بعد سقوط أكبر قواعدها ودفاعاتها، وتعمل داعش أيضاً على تصدير رؤيتها لمسألة الخلافة إلى فروع خارجية وتحويل أيديولوجيتها عن الخلافة من مجتمع مادي إلى مجتمع افتراضي منظم يعمل على نقل أهداف داعش بشكل مستقل عن المنظمة، وبهذ فإن هزيمة داعش في سوريا والعراق قد لا تكون كافية لهزيمة تنظيم داعش العالمي.

خلاصة القول أن حديث نهاية تنظيم الدولة الإسلامية لا يخرج عن كونه خرافة سياسية، ذلك أن تنظيم الدولة في العراق هو نتاج "الأزمة السنية" في العراق، التي نتجت عن الاحتلال الأمريكي الذي أطاح بالحكم السني وجاء بالحكم الشيعي، الأمر الذي استثمره تنظيم الدولة في عمليات الاستقطاب والتجنيد، وعمل على توسيع مشروعه لاحقا بالدعوة إلى تأسيس دولة سنية عالمية باسم "الخلافة"، لتجاوز أزمة الأقلية السنية المفترضة في العراق بضم سوريا إلى دولته لخلق واقع ديمغرافي سني جديد.

لكن جاذبية تنظيم الدولة الإسلامية والجهادية العالمية تستند إلى أسباب موضوعية أخرى تتعلق بالسياسات الكارثية للأنظمة العربية الدكتاتورية التي حولت المنطقة إلى ثكنة عسكرية وفشلت في تحقيق الاستقلال والتنمية والحرية والعدالة والكرامة، والسياسات الإقليمية السعودية الإيرانية التي استثمرت في اللعبة الطائفية  الباردة، وكذلك الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي عملت سياساتها الإمبريالية المتحالفة مع الدكتاتوريات المحلية، على الاستثمار في "حرب الإرهاب" كذريعة لديمومة الإخضاع والتحكم والسيطرة، فالغرب لم يحفل بثورات الربيع العربي ومبادئه المؤسسة على الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية، بل ساند دكتاتوريات الثورة المضادة، الأمر الذي يشير إلى أن نهاية تنظيم الدولة الإسلامية مستحيلة فمعركة الموصل لحظة عابرة والحرب لا تزال مستمرة وتحتفظ بمنطق ديمومتها.