مقالات مختارة

هل فَقَدَ العالمُ عقلَه؟

1300x600
هل فقد العالم عقلَه، اليوم، أم مشاعرَه، أم الاثنين معا؟ هذا التساؤل كان يُمكن أن يصح ربما في قرن آخر أو في زمن آخر، لكن ماذا يعني، أن يتجرّد العالم مما راكمه، واستثقفه، واستذكره على امتداد أجيال وأجيال، وعصور وعصور، من علم، وتنوير، وعقلانية، ووعي، وحروب، ومآسٍ، وإبداعات واختراعات وتطور وتقدم؟ أترى يمشي العالم إلى الوراء وهو يظن أنه يمشي إلى الأمام؟ أم العكس! ماذا يعني ما يجري حاليا في أمريكا وأوروبا والصين والبرازيل والكوريتين، وما سبق أن جرى في الحروب السابقة لاسيما الحربين العالميّتين الأولى (20 مليون قتيل)، والثانية (50 مليونا)؟ ماذا فعلت العلوم؟ (أو ليست هي نتاج العقل؟ والتكنولوجيا؟ والصعود إلى القمر؟ والنزول منه؟).

كل إنجازات العقل البشري أين هي؟ أتراها في المختبرات؟ أم في الجامعات؟ أو عند النخب، أو مراكز السلطة؟ أترى صار العقل قابعا وراء الجدران، وسائبا في المقامات السياسية، والأخلاقية، والديموقراطية، والاجتماعية؟ كيف يحصل اليوم هذا التفكك الشامل الذي عزل العقل وإلى حدٍّ كبير عن «المشاعر»، فانزاحت، وتضخّمت، وتورّمت، في النفوس؟

كيف صارت علاقة العقل بالسياسة؟ وكيف تقدمت العواطف والانفعالات، والمخاوف، والانفجارات، اللامعقولة، واللامقودة، لتسود ظواهر سلطات مجنونة تُمارس ما تُمارس من عنف، وقمع، وزج في السجون، ومجازر، وظلم، ونهب، وفساد؟ ما هو الحكم؟ وما هي طبيعته، وفي المقابل، هل ساكنته الأهواء، أم إن الأهواء والعواطف بأشكالها الشتى الإيجابية، والسلبيّة، قد غزت المفاصل، والنفوس، بلا كابح، ولا رادع؟

أين صارت القيم التي من المُفترض أن يُمارسها الحاكم، رئيسا، أو ملكا، أو جنرالا، أو نخبويا؟

عشنا في لبنان، مثلا، (وما زلنا) عصرا «مزدهرا» بالجنون الجماعي، والاستحكام الفردي، وبالغرائز، والكراهية، والتدمير: إنها الطائفية أبشع أنواع «الأهواء»، والأوهام واليوتوبيّات، حتى لم يبقَ من حضور العقل سوى قليله، وماذا تبقى من السياسة؟ لا شيء! وماذا تبقى من «الحكم» لا شيء إلا قليله. وأين صار الشعب: مضروبا على رأسه، بلا بوصلة، ولا طريق، لتشدّه، فتخدره الطائفية بلا عقلانيّة، نحو الفوضى، ونكران الوطن، وقيمه، وتاريخه، والارتماء في أحضان الوصايات والاحتلالات، والسقوط في مهاوي التقسيمات الجغرافية (أي المذهبية)، من دون حسبان ما يمكن أن يكون مصير الشعب بالذات، أو الدولة، أو البلد، أو الأفراد. أهو عماء الأهواء المذهبيّة يفرّغ كل شيء: الحكم، والسلطة، والمعارضات، من كل منطق، أو وعي، أو خلق؟

وإذا كانت السياسة، هي التعبير الأدمغ عن هذه العلاقة فهل تبقى سياسة إذا ما تماهت بكل ما يُغيّب الدماغ، والمسالك؟ فهل نرى السياسة، كما صارت اليوم هي «حكم» العواطف (الانفعالات الأنانية، الخوف، الغرائز) فالسياسة في جوهرها هي «تنظيم» المجتمع، والسلطة، والفضاء الرحب، والتعدد، والحوار عند من يحتلّون «الفوق»، وعند مَن يتلقّون النتائج «التحت»؟ يقول أفلاطون (في«الجمهورية») «السياسة هي طب النفس»، التي بها يُقام النقاش والحوار، ليوسع فيها الإنسان الجزء العقلاني من كيانه، ويسيطر على الجزء المتعلق بالرغبات الخاصة».

أما ماكيافيلي في كتابه «الأمير» فيرى أنّ وظيفة الحاكم السياسية هي «ممارسة السلطة، فرض القانون، وجعل دولته مزدهرة». لكن «ولأن مشاعر المواطنين غالبا ما تكون غير راضية فيجب الأخذ في الاعتبار ردود الفعل الانفعالية (الكبت، الخوف، الرضى، السرور، البهجة) للوصول إلى أهدافه والتمكن من السلطة. وإذا لم ينجح «فكل الوسائل مشروعة» (أي القمع، الاستبداد، القتل، الظلم)».

أما سبينوزا فيرى أنّ الفضاء السياسي هو المكان الذي تتمدد فيه «النزعات»، لكن الخطر يكمن في تنامي «الأهواء» الفرحة أو غلبة المشاعر اليائسة.

المشكلة التي تظهر أحيانا أن يعمد ممثلو السلطة إلى التلاعب بالعواطف، واستثارتها لخدمة مصالحهم الخاصة ومشاريعهم الفئوية. هناك إذا تناقض بين العقل والنزعات. فالأوّل هو فضاء يتحكم به العقل: (البيروقراطية، الإدارة، التكنوقراط) وكلها بعيدة عن المشاعر والعواطف التي تحرك الإنسان. لكن ماذا نفعل بالعواطف عندها إذا انفردت، لتفتح الطريق أمام الفوضى والشعوبية والانفعالات، متمثلة بالغضب، والرغبة في تحطيم كل شيء؟

العقل وحده

لكن، هل يمكن أن يحقق العقل وحده الحياة السياسية ومندرجاتها، وظواهرها؟ طبعا لا! فالعواطف ليست كلّها سلبية بشكل مطلق، يمكن أن تخدم أهداف العقل، مثلا الثورة الفرنسية في عام 1789، بدأت بمطالب، وفلسفة سلمية للسلطة، وإسقاط الطغيان الملكي، بتصورات وأفكار جديدة تفتح عالما جديدا، لكن لم تنفصل عنها العواطف فتغيّر وجهتها: وهل ننسى فصول الترهيب والعنف وانفلات النوازع الشعبية (كممرات ضرورية لإقامة نظام أكثر عدالة؟) وأين نضع روبسبير ودانتون؛ الأول نصَب المقاصل، ومارس قطع الرؤوس، والمحاكم الميدانية، والشعب يسانده بجنونه وغضبه، وسادت هذه الحال غير المستقرة نحو مئة عام حتى 1880. وعلى غرارها قامت الثورة البولشيفية، التي «انتصرت» على البلاشفة (البيض)، بعد حروب أسقطت عشرات الألوف من الضحايا؛ لينين «العقلاني» هو الذي حرّك كل هذه المشاعر الفوضويّة، والاتجاهات العنفية، وسفك الدماء، وهو السياسي «المحترف» الذي عرف كيف يزرع روح الفرقة، في قلب الثورة التي بدأت مع البلاشفة سلمية وتدعو إلى الديموقراطية والحوار.

الاثنان تلازما في الثورتين: العقل الرائي، والمشاعر المجنونة، التي جعلت الخصوم (رفاق الأمس) أعداء. وما الذي يمكن أن تنتجه هذه الثورة غير الاستبداد للسيطرة على السلطة. وهكذا كانت بدايات قيام النظام الدكتاتوري العلماني في روسيا، التي مهّدت لستالين! 

الربيع العربي

وإذا عدنا إلى الربيع العربي في مطلاته الأولى: ثورة سياسية واضحة سلمية، شعبية، تفجرت لإسقاط نظام أقلوي، استبدادي، قاتل، فاسد. وهكذا استهلّت بقية ثورات الربيع العربي من تونس إلى مصر إلى ليبيا فاليمن... شعب مليء بالغضب، والكبت، والفقر، ينفجر لكن تحت راية العقل السياسي ممزوجا بعواطف معروفة. هنا جاء دور الدكتاتوريين: الحل الوحيد للدفاع عن مراكزهم تحويل الثورة الهادئة المحددة المطالب إلى حرب أهلية. تحوّلت هنا طائفية (سوريا - اليمن) وقبليّة (ليبيا). لم يعد هنا للعقل من دور في ظل المعارك والمذابح والتهجير والإعدامات الجماعية، واستثارة الغرائز، وأحقاد الماضي. لم تعد الحروب ابنة الحاضر إلا من خلال الأسلحة المُتطورة، كل شيء قلبته الغرائز المذهبية، البلدان، والناس، والحدود، والانتماءات.

ذلك أن حكام تلك البلدان «استخدموا» عقولهم، لإضفاء نزعة سياسية على ممارساتهم الشعبويّة، وذلك عبر إعلانهم هويّاتهم العائلية – المذهبية – (بواجهات حزبية ربما علمانية كالبعث). عرفوا أن السياسة بمفهومها الأصلي فاقدة للعواطف فاستغلوها في حكمهم، لا لتنظيم العيش المشترك، والعدالة، والقضاء المستقل، والانتخابات الديموقراطية، بل بفعل كل شيء لتدمير كل هذه الأسس؛ وتدمير عنصرها الرئيسي: الشعب، حكموا بلا شعب. ولا قوانين. ولا دساتير. 

لكن الشعب الذي كان يعي كلّ شروطه، انتفض، فوقع كثيره في ما يريد حكامه أن يسقط فيه: الغرائز المذهبية، والطائفية والمناطقيّة... وحتى الدينيّة: و«داعش» هو المثال الأسطع على ما آل إليه الناس الذين ماشوه وانخرطوا فيه، لأن عامل العقل بات في الخلفيات المتباعدة.

كائنات مزدوجة

فالناس كلهم، في المنظور الفلسفي والاجتماعي ليسوا «كائنات» عقلانيّة محضة فقط، بل هناك دائما في مستورهم أو حتى في منظورهم، ما يوحي جوانب أخرى في الأعماق: المشاعر. لكن بدلا من أن تحوّل هذه المشاعر إلى مداها الإيجابي والإبداعي انجرفت في ما رسمه «الكبار»، أي الحكام!

أوليسَ هذا ما يحدث حاليا في أمريكا وأوروبا؟ وكيف نفهم تنامي الشعبوية واللاعقلانية. أي (اللاسياسية)، وأنماط العنصرية الدينية، والأتينية، في هذه الشعوب التي صنعت الديموقراطية، وفصلت الدين عن الدولة، والشؤون العامة؟ وماذا عن ترامب: ألم يحوّل القيم الأمريكية إلى نقائضها، إلى اللامنطق، واللاحقيقة، واللاتفكير؟ أوليسَ هذا ما جعل الناس ينحازون إلى جهات لا تمثّل مصالحهم لتتحوّل المجتمعات التي ينظمها العقل إلى مجتمعات عشوائية، فوضوية، عنيفة. وهنا تكمن الأسباب: العولمة التي صفّت المصانع، ونمطّت الناس، وتركت شرائح كبيرة من العمال والمزارعين عاطلين عن العمل، ليستغل ترامب هذا الواقع، ويطرح مشاريع «عزلوية» ضد أوروبا (المسؤولة) وضد المسلمين (الغزاة)، و«المهاجرين» (المكسيكيين)؛ أي تحويل مجتمعات قامت على التعددية، إلى مجتمعات «مطهرة» عرقية، صافية، كأنها عودة وبشكل آخر إلى حروب العنصرية بين الأبيض والأسود. تخلى الناس هنا عن عقولهم النقدية التي تقوم عليها السياسة، وأشكال التنافس فيها، وارتموا في أحضان جزء من طبائعهم الغريزية! أوليس هذا ما حصل في «البريكست» في بريطانيا، عندما انتصر الشعبويون على عقولهم الواعية أولا، ليصوتوا في الاستفتاء لخروج بريطانيا من أوروبا، بقيادة رئيسة الوزراء الحالية تريزا ماي. وهل تختلف فرنسا اليوم عن أمريكا «ترامب» و«بريطانيا» ماي، لا! وها هي الشعبوية تجرف اليمين المتطرف، واليسار المتطرف وبعض المرشحين الجمهوريين. لكن يبدو أن الشعب الفرنسي استدرك «أخطاءه» فصححها نسبيا في مناسبتين: الانتخابات الرئاسية بفوز ماكرون، والبرلمانية باكتساح الرئيس المنتخب أكثرية المقاعد. لكن حتى في الحالَين، يجب ألا نغفل خطورة «الاستقطابات» السريعة، التي لم نعرف إذا كانت حركتها «شعبويّة» ما، أو ردود فعل انفعالية ما، التي من أخطارها سيادة الحزب الواحد «الجمهورية إلى الأمام» فنقع عندها في أحادية سياسية تخلّ بالتوازن بين المعارضة والموالاة، وتخلّ بجوهر السياسة نفسها أي الديموقراطية. فليس مهما أن تفوز نخبة ما في التحديات المناسبية (الانتخابية)، بل المهم التساؤل من أوصلها إلى هناك، وكيف؟

وهنا بالذات سرّ الشعبويّة (التي ليست من صنيعة اليوم بل من إنتاج متقادم)، التي تزدهر إما بخيانة السلطة والنخب لها، وتركها تتمرّغ في ظروفها الصعبة، من فقر وعطالة، وإهمال، وإما «بصناعتها» نفسها: فإذا كانت المذهبية في لبنان هي صناعة محترفي السلطة والهيمنة، ولها مكوناتها الكيميائية المعروفة، فإن الشعبويّة هي أيضا من صناعة سياسية (والمذهبية عنصر أساسي من عناصر الشعبويّة)، تعمل على تعطيل العقل كجهاز نقدي اختياري واعٍ، لمصلحة أهواء جامحة لا واعية ولا عقلانية، هي مجموعة ما يمكن أن يُسمى الأهواء. فلا العقل كافٍ لإدارة الناس، ولا المشاعر؛ الأول يدرك التوتاليتارية، والثانية تفضي إلى الفوضى، والكراهية، واللاعقلانية.

المهم كيف نجمع بين سيادة العقل... وإمكانية ترويض العواطف.

المستقبل اللبنانية